كتب مرة ناقد سينمائي فرنسي مشيداً بفيلم "الحرب والسلام" من إخراج الروسي سيرغي بوندراتشوك -يقارنه بالنسخة الأميركية من إخراج كينغ فيدور- بأنه يتميّز بالأرض الروسية الشاسعة المترامية الأطراف، أي أن الفيلم الأميركي يفتقد إلى روسيا التي لا فضل للمخرج فيها.
التميّز لا يعني الخصوصية التي أكثر ما نلاحظها في الأدب. فنحن نعثر على الشعب الروسي في قصص ومسرحيات تشيخوف، سواء في القاع الاجتماعي وما يقاسيه من شظف العيش، أو مع علية القوم وما يعانونه من سأم وملل، وهي ليست كلمات تقال، تتبدّى في العلاقات اليومية وجراح الروح وإرث الماضي.
كذلك اختزل دستويفسكي وتورجنيف في أبطالهم، سواء في الداخل أو في المهاجر، نماذج واقعية للمزاج الروسي العنيف والقاسي، والطيّب الذي يذرف الدموع في أقل بادرة من التعاطف.
كما ونعثر في روايات بلزاك على فرنسيين أقحاح من الأب غوريو إلى طبيب الريف وكاهن القرية، والمصرفي والضابط المتقاعد. أما في روايات جين أوستن، فنلحظ شخصيات نسائية إنجليزية صميمية من عائلات أثرياء الريف، ما زالت تلاقي استحساناً وإقبالاً حتى الآن عندما تستعيدها السينما والتلفزيون.
هل تكمن الخصوصية في أن نرى الروس والفرنسيين والإنجليز في قصصهم، مثلما نرى الأميركان في روايات هيمنغواي وفوكنر وسالنجر... وأميركا اللاتينية في روايات ماركيز ويوسا وغيرهم؟ بالمقابل، هل تصلح "ألف ليلة وليلة" معياراً لخصوصيتنا؟
منذ "الليالي العربية" كما يحب الغرب تسميتها، يرغب في رؤيتنا من خلالها، وما زالت الترجمات من العربية، ترغب في هذا النمط؛ ملوك وحريم وحمامات وعروش تتهاوى ورؤوس تتدحرج وسياف، ولو على نحو عصري.
هناك رأي يقول إن خصوصية الغرب مستمدة من التيارات الأدبية، تتبدّى في رومانسية وواقعية القرن الثامن عشر والتاسع عشر إلى الواقعية السحرية وغيرها، بينما العرب لم يقدّموا حتى اليوم تياراً أدبياً يُحسب لهم، من خلاله يُبرزون خصوصيّتهم.
غير أن التيارات الأدبية القديمة والمستحدثة ليست محط خصوصية ولا ملكية، بل تعتبر تقنيات وأشكال مبذولة للجميع، مهما كان مصدرها، فهي خزّان الأدب، القابل للاستخدام دونما تخصيص بأحد.
رأى الغرب نفسه في رواياته، بينما لم ير العرب أنفسهم إلا في عيون الغرب، والمستغرب أن تلازم بعضهم عقدة الدونية، بكتابة روايات تصلح للترجمة، بتقديم نماذج الشذوذ والبطش والانحلال والهوس بالموت وتدمير الذات، أنموذج الإنسان المريض على أنها صورة العربي، إرضاء للمزاج الغربي الذي وجد في العنف أيقونة السيطرة على شعوب مريضة غير راشدة، فلماذا لا ترضيه رؤية العرب على هذه الشاكلة؟
ليس في الكتابة لحساب الغرب إلا خصوصية مُدّعاة. الخصوصية تتحقق في أن نكتب رواياتنا عن أنفسنا نحن الذين نجهل ذواتنا، لن يتطوّع غيرنا ويكتبها عوضاً عنا. حينئذ نستطيع أن نقدّم شيئاً للعالم، يتعدّى الخصوصية، بإثراء العالم بروايات تستدعي إنجازات تضاف إلى الرصيد الأدبي العالمي.