أوتيت من العمر عتيّا، تجاوزتْ الستين لا محالة.. جلست إلى الطاولة الأمامية خلف باب المقهى الرئيسي الكبير، على يمين ركن منزو يسمح برؤية المكان كله على الرغم من أنه لا يعلو المصطبة. شعرها الأبيض كليًا، بالكاد مرتَّبا، وُضِب على شكل كعكة خلف الرأس، جعلت العنق وكامل سمات وجهها الدائري بارزين. فيما خرجت خصلتان عن مسار التسريحة التي من الواضح أن صاحبتها لم تستأنس من أجلها بمرآة. وزيّن الأذنين قرطان لازورديان متدليان قليلًا.
ما أن دخلت المقهى حتى وقعت عليها عيناي التي تكتشف المكان والمدينة والبلد.
عندما تسافر وحيدًا، يتكون لديك وعي بالأشياء والأماكن مختلفٌ. أنت وحدك. تتأمّل حولك. تكتشف نفسك قبل الأمكنة. ذاتك التي أهملت السؤال عنها وقررت أن تمرر كلّ بؤر الاهتمام تحت شلالات الأفكار، إلاها. تعاندك ذات لحظة هاربة من زمام "أنا أفكر"، ترسل إليك إشارات، دغدغة بفعل همس من غياهب لا تدركها: تأمّل.
شيء من ألوان لباسها البسيط والراقي، وشيء من نسق خطاها المتأنية المرتكزة على عكاز بني اللون يلمع مع ضوء الشمس، وشيء من وقار صمت وثبات في السير، إلى أن جلست على كرسيها. كل هذا جعل قدومها يكاد يكون مميزًا. كان من الواضح أنها من المعتادين على المكان. وكان من الواضح، أيضًا، أنها تنتمي لطبقة الميسورين. هذا المكان أصلًا هو أحد مقاهي وسط البلد المعروفة بكونها قبلة الكتاب والشعراء والمثقفين منذ عقود خلت.
قميصٌ نسائي أبيض بنصف كُمّ، رُسمت عليه زهور وردية مع بعض الأغصان الصغيرة ووريقات خضراء، وبنطلون أبيض أيضًا، وحذاء من دون كعب، مفتوح من الأمام. خاتمان أحدهما في الخنصر، وساعة في اليد اليمنى التي تستند إلى العكاز وخاتم آخر في أحد أصابع اليد اليسرى، وسلسلة رفيعة عند المعصم. نظارات مربوطة بخيط حول العنق تتدلى كما القلادة، ولا شيء آخر سوى حقيبة يدوية صغيرة على شكل كيس. كان مظهرها شبيهًا برسم امرأة في إحدى اللوحات التي أذكر أنها جذبتني في أحد المعارض الفنية بلندن. سيدة اللوحة كانت تقف عند حافّة مقدمة سفينة في عرض البحر، إلى جانبها شبّاك متوسط الحجم مفتوح غير مثبت بشيء. شباك لا دعائم له، لا سببَ لوجوده، تمامًا كالفجوات الخاوية التي نحافظ عليها أحيانًا عمدًا في حياتنا. نتركها لما قد يحدث يومًا، قد يأتي يومًا، أو لمن قد يعود. وبقدر ما نترك فجوات، بقدر ما نُفرّغ بالمثل زوايا باردة رطبة في الذاكرة، نتربع عندها ونصلي صلاة الغائب. لا أدري لماذا كانت سيدة السفينة وسيدة المقهى توحيان أنهما تمتلكان اللحظة والزمن وكل ما فيهما، وليس العكس.
رائحة عتيقة وصلت إلى أنفي. يحدث أن يرتج مكان ما، بقدوم ما، برائحة ما، بشخص ما. إذ بعض النَّاس محملة بأكثر مما ترى منها، وليست الأجسام وعاءً فيزيولوجيًا يتبطن فيها لحم وعظم ودم وماء، بقدر ما هي كتلة تتخفّى فيها وحولها هالة غير محسوسة وجزيئات من كلٍ ميتافيزيقي لا يوصف ولا يُفسر.
توجهت نحوها صاحبة المقهى، حيَّتها بابتسامة عريضة تمامًا كما تفعل مع معظم الروّاد الذين تعرفهم، ثم سارت إلى مكتبها عند مدخل المحل. "حجبلك الشاي حالًا يا ست خيرية" صاح النادل وهو يلمح تململها بعد دقائق من وصولها. خمس دقائق لا غير، عمر انتظارها وعمر المعرفة الجديدة.
بعدها، عندما غادرتُ المكان وجدت التوصيف الأمثل لما جمعهما: أمان الأنوثة والتسليم. يترنحان بين ماض وزمان آت. إن أردنا استعادة سِلْمَ الأنوثة يجب أن نعيد للمرأة الأمان. لا أمان ما لم تتبدد مخاوفها من أن تكون أنوثتها مصدر شقائها.
ترشفت الست خيرية الشاي ودعت النادل أن يأتي بمثله للفتاة ثم استدارت نحوها: "أي المطربات تُحبين؟. أتعجبك نجاة الصغيرة؟ لها أغنية جميلة جدًا سمعتها في الراديو هذا الصباح". صمتت الست خيرية ولم ترد الشابة جوابًا عن أسئلتها. ولزمت الصمت بدورها تحثّ العجوز على المضي في حديثها: "تلك التي تقول "كل ثانية في عمري، في عمري، بتقلك بحبك. أتعرفينها؟". ثم صمتت مجددًا قبل أن تواصل مبتسمة: "أهو أنا بقى حبيت مرة في حياتي بالشكل ده. بكل العنف ده وبكل ما في كياني من قوة وضعف". حملت كوب الشاي إلى فمها مجددًا، ثم نظرت بود إلى الشابة وقالت: "عايزة تكتبي؟". ابتسمت الفتاة وأومأت برأسها إيجابًا وسرعان ما ضغطت على زر آلة التشغيل وأمسكت القلم. "سأحكي لك اليوم عَن حب كبير عشته في حياتي، وتأكدي أن عددًا قليلًا من المقرّبين مني يعرف ذلك. أريد أن أطلعك على بعض تفاصيله، لأنه جزء من ماضيَّ. ولأنه، أيضًا، موجود في الكثير من أعمالي". مسحت بيدها على ركبتها مرات عديدة، كما لو أنها تخفف عنها وجعًا. وساد الصمت بين المرأتين، وخيّل لي أَنَّه امتد إلى كامل المقهى."ليس هناك حافز للكتابة أقوى من الألم. مهما كان نوعه. عندما يحترق الكبد حسرة، أو ينفطر القلب لوعة. عندما تتفتت الأحشاء. تتمزق الأوصال. عندما تحترق الروح. كلها كلمات، قد تبدو فقط كلمات مكتوبة. مفردات إن جمعتها جنبًا إلى جنب، تأكدي أن حقيقتها أشدّ وقعًا ملايين المرات من مجرد صياغتها اللغوية. ليس ثمة شخصية يخترعها الكاتب من دون أن يوشحها بجانب من فرحه ومن حزنه. الشخصيات هي أكفان الكتّاب، تحمل منهم الكثير وتلفهم، يحتمون بها وتحتمي فيهم".
كيف أسمح لنفسي بالاستماع إلى خصوصية الست خيرية من دون أن استأذن منها؟ وجدت نفسي متورطة بغير قصد، هل أغادر؟ السيدة على وشك أن تذيع سرًا لرفيقتها، وإن بقيت سيبلغ مسمعي غصبًا. أقنعت نفسي أن ما دام الحديث يدور في فضاء عام، فعلى صاحبه تحمّل مسؤولية ذلك وقبول إمكانية انتشاره بين الموجودين في ذاك الفضاء.
وفي الوقت نفسه فتح أحدهم باب المقهى وتركه على حاله برهة، فدخلت موجة حرّ طغت على التكييف. جَهِرَتْ عيناي بشعاع شمس انعكس على زجاج الباب المفتوح. ليست الظلمة وحدها تحجب عنا الرؤية. كثير من النور، أيضًا، يفقدنا البصر. لا الأسود وحده ينفع ولا الأبيض. الحياة ألوان، والأفكار والمواقف والأفعال تتأرجح بينهما حتى تكون.
ومن بوح الست خيرية اخترت موقفًا رمادي اللون، يعني ما بين بين. رجوتها سرًا أن تغفر تطفّلي. رجاء أنصاف الجبناء الذين يتمتمون تعاويذ الالتماس عند أنصاف الشدائد. لم تكن محظوظة المسكينة يومها بوجود من يعشق الحكايات إلى حد الشغف.
صغيرة، كنتُ لا أبرح في الصيف منزل جدتي الذي لا يفرغ من الناس. لم أعهد باب منزلها مغلقًا يومًا إلا ليلًا للنوم. كل نسوة الحي كن يأتين لقضاء بعض الوقت. يشربن الشاي ويتحدّثن وما أكثر الأحاديث والحكايات. كنت أحب أن أستمع، وفي غفلة منهن ينساب الحديث في كل الاتجاهات؛ عن أنفسهن وأزواجهن وعائلاتهن وعن فلانة وعلانة وعن.. إلى أن ينتبهن لوجود الصغار فينهروهن عن الاستماع: "هذه حكايات الكبار، هيّا اذهبوا من هنا". إلى أين نذهب وأنتن الدنيا بأسرها؟. "حكايات الكبار". العبارة ومضمونها كانا يستهويانني. والمقهى ذلك اليوم، كان بيت جدتي، والست خيرية كانت الخالة فاطمة أحد الوجوه النسائية دائمة الزيارة لبيت جدتي. فلتغفري يا ست خيرية المقارنة، ووجودي، وحبي للحكايات.
ستحكين عن حبّ وسأستمع بحبّ. حبّ يقابله حبّ. يقولون إن المسنين كنزٌ من المعارف الحياتية والتجارب، خزينة مفتوح بابها، هم العجائز يتركون أبوابهم مفتوحة. ما عاد الغريب يرعبهم. لم يبق من الزمن ما يضيعونه في الريبة.
أن تتذكر العجوز شعلة العواطف هذه، يعني أن الحكاية جعلت داخل ذاكرتها وقلبها تجاعيدَ أكثر عمقًا وامتدادًا من أخاديد المياه التي حفرتها البشرية للري.
الذكريات، بكل وجعها تروي الأرواح بشكل ما. دققّت الست خيرية النظر في الفتاة وقالت: "الإنسان العاقل هو الذي يشرِّح الحبّ الذي اعتراه كما تُشَرَّحُ الجثث. حتى يفهم، طبعًا بعد انتهاء العاصفة، لما كان وقعه شديدًا. لا وجود لحب غير قابل للتفسير، ومن يقول غير ذلك فهو غير صادق مع نفسه".
سيدتي الجميلة، ادعيني الى طاولتك وقُصي عليّ بقية الحكاية وزفّي إلى مسامعي النصح والإرشاد. تمتمتُ في سري. بالكاد انتهيت حتى جاء النادل يخبرها أن سائقها وصل وهو في انتظارها.
خدايا! .. ناديت الرب باسمه الفارسي الذي أحب. لا تذهبي يا ست خيرية أريد سماع المزيد. مدت يدها للفتاة حتى تساعدها على النهوض: "أنت وراك آيه دلوقت؟ أنا عزماك على الغدا، وبالمرة نكمِّل". غادرت المرأتان من دون أن يُشفى غليلي. خدايا!.. هِيَ الحياة هكذا، تضع أمامك أشخاصًا، وهي تعلم أنك ستهتم لأمرهم، ثم تسحبهم بعيدًا. قد أقرأ للست خيرية أو عنها ذات يوم ، في زحام تلك المدينة.
(كاتبة تونسية)
ما أن دخلت المقهى حتى وقعت عليها عيناي التي تكتشف المكان والمدينة والبلد.
عندما تسافر وحيدًا، يتكون لديك وعي بالأشياء والأماكن مختلفٌ. أنت وحدك. تتأمّل حولك. تكتشف نفسك قبل الأمكنة. ذاتك التي أهملت السؤال عنها وقررت أن تمرر كلّ بؤر الاهتمام تحت شلالات الأفكار، إلاها. تعاندك ذات لحظة هاربة من زمام "أنا أفكر"، ترسل إليك إشارات، دغدغة بفعل همس من غياهب لا تدركها: تأمّل.
شيء من ألوان لباسها البسيط والراقي، وشيء من نسق خطاها المتأنية المرتكزة على عكاز بني اللون يلمع مع ضوء الشمس، وشيء من وقار صمت وثبات في السير، إلى أن جلست على كرسيها. كل هذا جعل قدومها يكاد يكون مميزًا. كان من الواضح أنها من المعتادين على المكان. وكان من الواضح، أيضًا، أنها تنتمي لطبقة الميسورين. هذا المكان أصلًا هو أحد مقاهي وسط البلد المعروفة بكونها قبلة الكتاب والشعراء والمثقفين منذ عقود خلت.
قميصٌ نسائي أبيض بنصف كُمّ، رُسمت عليه زهور وردية مع بعض الأغصان الصغيرة ووريقات خضراء، وبنطلون أبيض أيضًا، وحذاء من دون كعب، مفتوح من الأمام. خاتمان أحدهما في الخنصر، وساعة في اليد اليمنى التي تستند إلى العكاز وخاتم آخر في أحد أصابع اليد اليسرى، وسلسلة رفيعة عند المعصم. نظارات مربوطة بخيط حول العنق تتدلى كما القلادة، ولا شيء آخر سوى حقيبة يدوية صغيرة على شكل كيس. كان مظهرها شبيهًا برسم امرأة في إحدى اللوحات التي أذكر أنها جذبتني في أحد المعارض الفنية بلندن. سيدة اللوحة كانت تقف عند حافّة مقدمة سفينة في عرض البحر، إلى جانبها شبّاك متوسط الحجم مفتوح غير مثبت بشيء. شباك لا دعائم له، لا سببَ لوجوده، تمامًا كالفجوات الخاوية التي نحافظ عليها أحيانًا عمدًا في حياتنا. نتركها لما قد يحدث يومًا، قد يأتي يومًا، أو لمن قد يعود. وبقدر ما نترك فجوات، بقدر ما نُفرّغ بالمثل زوايا باردة رطبة في الذاكرة، نتربع عندها ونصلي صلاة الغائب. لا أدري لماذا كانت سيدة السفينة وسيدة المقهى توحيان أنهما تمتلكان اللحظة والزمن وكل ما فيهما، وليس العكس.
رائحة عتيقة وصلت إلى أنفي. يحدث أن يرتج مكان ما، بقدوم ما، برائحة ما، بشخص ما. إذ بعض النَّاس محملة بأكثر مما ترى منها، وليست الأجسام وعاءً فيزيولوجيًا يتبطن فيها لحم وعظم ودم وماء، بقدر ما هي كتلة تتخفّى فيها وحولها هالة غير محسوسة وجزيئات من كلٍ ميتافيزيقي لا يوصف ولا يُفسر.
توجهت نحوها صاحبة المقهى، حيَّتها بابتسامة عريضة تمامًا كما تفعل مع معظم الروّاد الذين تعرفهم، ثم سارت إلى مكتبها عند مدخل المحل. "حجبلك الشاي حالًا يا ست خيرية" صاح النادل وهو يلمح تململها بعد دقائق من وصولها. خمس دقائق لا غير، عمر انتظارها وعمر المعرفة الجديدة.
اقرأ أيضاً: أنا لست زهرة ملكًا لأحد
اسمها خيرية إذن. عظيم، ومن تكون؟. "الجرائد يا إسماعيل"، أردفت عقبه. دقائق معدودة أخرى وجاء الشاي والجرائد وقدمت، أيضًا، شابة في مقتبل العمر، انحنت على الست خيرية قبّلتها بحرارة وعنفوان شباب مبتهج، بينما حافظت العجوز على هدوئها على الرغم من السرور الذي بدا على محيّاها، خصوصاً وقد أحاطت بذراعها خصر الشابة تسألها مبتسمة "كيف حالك؟"، ثم أبعدتها عنها قليلًا وقالت: "يلا اجلسي. ليس لدينا موعد مع بعض اليوم، فماذا تفعلين هنا؟". "أعلم ذلك، أنا آسفة، ولكن أردت أن نواصل قليلًا العمل، وبما أنني أعرف أنك موجودة هنا، جئت لرؤيتك. آمل أن توافقي. لا أريد إزعاجك، ولكن لم أستطع الانتظار". صمتت برهة تنتظر ردّ الست خيرية التي نطقت، أخيراً، وهي تنظر إلى الشابة بعتب خفيف: "وححكيلك عن إيه أنا بقى النهارده؟". أخرجت الفتاة سريعًا أوراقًا بيضاء وقلمًا وآلة تسجيل صغيرة: "الى حضرتك تشوفيه، زي ما أنت عايزة". كنت جالسة بالقرب منهما بالقدر الذي يسمح لي سماع حوارهما، وبلغ بي الفضول مرتبة أقرب إلى نزعة آدم وحواء مع التفاحة. لم أكمل كوب العصير الذي أمامي، ومع ذلك ناديت النادل وطلبت قهوة سكّرها زيادة، على الرغم من أني لا ولن أشربها. سألته بإصرار من تكون هذه السيدة، إذ لربما أعرفها. "الست خيرية، كانت بتكتب كتب وبتكتب في الجرايد كمان واشتغلت وكيلة وزارة من زمان أوي وعملت حاجات كتير". أي أصناف الكتب كانت تكتب؟ روايات أم بحوث أم مقرّرات مدرسية أم شيء آخر؟ وفي أي الصحف عملت؟. انتظرت عودة النادل بفنجان القهوة لأسأله عن لقبها العائلي، لأستدل به من أجل العثور على أحد كتبها. لكنه حلف لي أنه لا يعلم بالضبط. أعاد على مسامعي ما أخبروه عنها، عندما جاء للعمل في هذا المكان. اكتفيت بالنزر القليل من المعلومات، ورحت أتأمل المرأتين وأستمع حوارهما. عجيب ما تراءى لي من تماسك للفضاء الذي تشكّل حولهما. على الرغم من اختلاف عمريهما، ثمة انسجام من نوع ما، وقاسم مشترك يجمع بينهما على الرغم من عدد السنوات. كأن بينهما امتدادًا وكذا "عود على بدء". جلستا تقريبًا جنبًا إلى جنب، بَدَا بينهما جسر من اللين والرهافة، حتى أنهما كانتا ككل واحد بمعالم جسدية متباينة. لم أعد أرى من الست خيرية وقار السنين وصلابة العمر فحسب، بل تراءت لي هشاشة ليست بضعف. هي فطرة الأنثى الآمنة فحسب. الأنثى آمنة بطبعها. وعندما تأمّن المرأة تكون أقرب للملاك. بَدَت الشابة بمثل هشاشة الست خيرية، أقول هشاشة، وهي في الواقع رقّة، تبعث ذبذبات في الأجواء كما الرقص الخفيف المتأني.بعدها، عندما غادرتُ المكان وجدت التوصيف الأمثل لما جمعهما: أمان الأنوثة والتسليم. يترنحان بين ماض وزمان آت. إن أردنا استعادة سِلْمَ الأنوثة يجب أن نعيد للمرأة الأمان. لا أمان ما لم تتبدد مخاوفها من أن تكون أنوثتها مصدر شقائها.
ترشفت الست خيرية الشاي ودعت النادل أن يأتي بمثله للفتاة ثم استدارت نحوها: "أي المطربات تُحبين؟. أتعجبك نجاة الصغيرة؟ لها أغنية جميلة جدًا سمعتها في الراديو هذا الصباح". صمتت الست خيرية ولم ترد الشابة جوابًا عن أسئلتها. ولزمت الصمت بدورها تحثّ العجوز على المضي في حديثها: "تلك التي تقول "كل ثانية في عمري، في عمري، بتقلك بحبك. أتعرفينها؟". ثم صمتت مجددًا قبل أن تواصل مبتسمة: "أهو أنا بقى حبيت مرة في حياتي بالشكل ده. بكل العنف ده وبكل ما في كياني من قوة وضعف". حملت كوب الشاي إلى فمها مجددًا، ثم نظرت بود إلى الشابة وقالت: "عايزة تكتبي؟". ابتسمت الفتاة وأومأت برأسها إيجابًا وسرعان ما ضغطت على زر آلة التشغيل وأمسكت القلم. "سأحكي لك اليوم عَن حب كبير عشته في حياتي، وتأكدي أن عددًا قليلًا من المقرّبين مني يعرف ذلك. أريد أن أطلعك على بعض تفاصيله، لأنه جزء من ماضيَّ. ولأنه، أيضًا، موجود في الكثير من أعمالي". مسحت بيدها على ركبتها مرات عديدة، كما لو أنها تخفف عنها وجعًا. وساد الصمت بين المرأتين، وخيّل لي أَنَّه امتد إلى كامل المقهى."ليس هناك حافز للكتابة أقوى من الألم. مهما كان نوعه. عندما يحترق الكبد حسرة، أو ينفطر القلب لوعة. عندما تتفتت الأحشاء. تتمزق الأوصال. عندما تحترق الروح. كلها كلمات، قد تبدو فقط كلمات مكتوبة. مفردات إن جمعتها جنبًا إلى جنب، تأكدي أن حقيقتها أشدّ وقعًا ملايين المرات من مجرد صياغتها اللغوية. ليس ثمة شخصية يخترعها الكاتب من دون أن يوشحها بجانب من فرحه ومن حزنه. الشخصيات هي أكفان الكتّاب، تحمل منهم الكثير وتلفهم، يحتمون بها وتحتمي فيهم".
كيف أسمح لنفسي بالاستماع إلى خصوصية الست خيرية من دون أن استأذن منها؟ وجدت نفسي متورطة بغير قصد، هل أغادر؟ السيدة على وشك أن تذيع سرًا لرفيقتها، وإن بقيت سيبلغ مسمعي غصبًا. أقنعت نفسي أن ما دام الحديث يدور في فضاء عام، فعلى صاحبه تحمّل مسؤولية ذلك وقبول إمكانية انتشاره بين الموجودين في ذاك الفضاء.
وفي الوقت نفسه فتح أحدهم باب المقهى وتركه على حاله برهة، فدخلت موجة حرّ طغت على التكييف. جَهِرَتْ عيناي بشعاع شمس انعكس على زجاج الباب المفتوح. ليست الظلمة وحدها تحجب عنا الرؤية. كثير من النور، أيضًا، يفقدنا البصر. لا الأسود وحده ينفع ولا الأبيض. الحياة ألوان، والأفكار والمواقف والأفعال تتأرجح بينهما حتى تكون.
ومن بوح الست خيرية اخترت موقفًا رمادي اللون، يعني ما بين بين. رجوتها سرًا أن تغفر تطفّلي. رجاء أنصاف الجبناء الذين يتمتمون تعاويذ الالتماس عند أنصاف الشدائد. لم تكن محظوظة المسكينة يومها بوجود من يعشق الحكايات إلى حد الشغف.
صغيرة، كنتُ لا أبرح في الصيف منزل جدتي الذي لا يفرغ من الناس. لم أعهد باب منزلها مغلقًا يومًا إلا ليلًا للنوم. كل نسوة الحي كن يأتين لقضاء بعض الوقت. يشربن الشاي ويتحدّثن وما أكثر الأحاديث والحكايات. كنت أحب أن أستمع، وفي غفلة منهن ينساب الحديث في كل الاتجاهات؛ عن أنفسهن وأزواجهن وعائلاتهن وعن فلانة وعلانة وعن.. إلى أن ينتبهن لوجود الصغار فينهروهن عن الاستماع: "هذه حكايات الكبار، هيّا اذهبوا من هنا". إلى أين نذهب وأنتن الدنيا بأسرها؟. "حكايات الكبار". العبارة ومضمونها كانا يستهويانني. والمقهى ذلك اليوم، كان بيت جدتي، والست خيرية كانت الخالة فاطمة أحد الوجوه النسائية دائمة الزيارة لبيت جدتي. فلتغفري يا ست خيرية المقارنة، ووجودي، وحبي للحكايات.
ستحكين عن حبّ وسأستمع بحبّ. حبّ يقابله حبّ. يقولون إن المسنين كنزٌ من المعارف الحياتية والتجارب، خزينة مفتوح بابها، هم العجائز يتركون أبوابهم مفتوحة. ما عاد الغريب يرعبهم. لم يبق من الزمن ما يضيعونه في الريبة.
أن تتذكر العجوز شعلة العواطف هذه، يعني أن الحكاية جعلت داخل ذاكرتها وقلبها تجاعيدَ أكثر عمقًا وامتدادًا من أخاديد المياه التي حفرتها البشرية للري.
الذكريات، بكل وجعها تروي الأرواح بشكل ما. دققّت الست خيرية النظر في الفتاة وقالت: "الإنسان العاقل هو الذي يشرِّح الحبّ الذي اعتراه كما تُشَرَّحُ الجثث. حتى يفهم، طبعًا بعد انتهاء العاصفة، لما كان وقعه شديدًا. لا وجود لحب غير قابل للتفسير، ومن يقول غير ذلك فهو غير صادق مع نفسه".
سيدتي الجميلة، ادعيني الى طاولتك وقُصي عليّ بقية الحكاية وزفّي إلى مسامعي النصح والإرشاد. تمتمتُ في سري. بالكاد انتهيت حتى جاء النادل يخبرها أن سائقها وصل وهو في انتظارها.
خدايا! .. ناديت الرب باسمه الفارسي الذي أحب. لا تذهبي يا ست خيرية أريد سماع المزيد. مدت يدها للفتاة حتى تساعدها على النهوض: "أنت وراك آيه دلوقت؟ أنا عزماك على الغدا، وبالمرة نكمِّل". غادرت المرأتان من دون أن يُشفى غليلي. خدايا!.. هِيَ الحياة هكذا، تضع أمامك أشخاصًا، وهي تعلم أنك ستهتم لأمرهم، ثم تسحبهم بعيدًا. قد أقرأ للست خيرية أو عنها ذات يوم ، في زحام تلك المدينة.
(كاتبة تونسية)