04 نوفمبر 2024
كورونا .. جغرافيا الوباء والعنف الأسري
من دون أن يكون ذلك وصماً لها، يبدو أن الأحياء الشعبية في الحواضر العربية ومدنها كانت أقل الفئات انضباطا بالحجْر الصحي القسري الذي فرضته السلطات هناك. لا يعني هذا ازدراء لها، ولكن يبدو أن كورونا يعيد رسم خريطة الأيكولوجيا الحضرية للوباء، وهو بهذا يدقّق خريطة التهميش، حيث تغيب الخدمات الصحية، ويتدنّي مستوى إدراك الخطورة، فضلا عن إدارة الصبر وتدبّره، ما يرجح ميولا ما إلى العنف في دائرة الأسرة تحديدا.
قد يكون من السابق لأوانه الحكم بشأن منطق انتشار الوباء وتوزّعه، وما إذا كان واقعا تحت تأثير نزق طبقي يوجه الفيروس إلى المحتاجين والمهمّشين من أبناء تلك الأحياء الفقيرة، في انتظار صدور دراسات ديموغرافية دقيقة للوباء، خصوصا في ظل إصابات متعدّدة في وسط مشاهير الساسة والفنانين ولاعبي كرة القدم وغيرهم ممن لا حد لثرواتهم. ربما استدرجهم الفيروس، وهم في طريقهم إلى مصادر ثرواتهم وملذاتهم تلك، يمتطون الطائرات ويسهرون في أرقى الفنادق، ويختلطون مع علية القوم. على خلاف هذا المشهد المشدود لحركية تصيبنا بالدوار منذ أسابيع، فإن حركة الناس، بقطع النظر عن طبقاتهم في جل مدن العالم، غنيها أو فقيرها، شلت بشكل شبه نهائي.
تنقل إلينا الشاشات في بلدان عديدة تبرّم قاطني الأحياء الشعبية (العشوائيات)، حيث تقطن تلك الطبقات الفقيرة والمهمشة، بالحجر الصحي، بل وقفنا من خلالها على مسيراتٍ ليلية في بعض
الأحياء الشعبية في العاصمة التونسية (حي الكرم الغربي، الجبل الأحمر مثلا)، لشبابٍ يتظاهر معبرا عن امتعاضه من هذا الوباء، ورفضه الحجْر. كان ذلك في الأيام الأولى خصوصا. اعتبرها بعضهم مجموعات مدفوعة، تحرّكها نزعات فوضوية، أو سلفية، واعتبرها آخرون مجرد طيش عفوي لشبابٍ لم يقدّر خطورة الوباء، ورأى في تلك الإجراءات التي منعت الجولان (التجول) تعسفا لم تواكبها قرارات "تمكين" مصاحبة. وحتى نفهم مصدر هذا التبرّم في هذه الأحياء، علينا أن نعود إلى أركان تشكل الفضاء بالمعنيين، الجغرافي والثقافي، للوباء، وتمثل تلك الفئات له.
لا تتمثل ساكنة هذه الأحياء الفضاء العام على نحو ما تتمثله بقية الفئات الأخرى. تتميز البيوت التي يأوي إليها أفراد هذه الأحياء بضيق المساحة، حيث تفيد دراساتٌ عديدة بأن ما بين خمسة أو ستة أفراد "يتكدّسون" في أمتار محدودة، لا تتسع للجميع، وأن هناك تداولا على الفضاء المنزلي، فإذا دخل الأب مثلا خرج الأبناء إلى الشارع أو المقاهي .. إلخ، بحيث يندر أن يجتمع جميع أفراد العائلة في الفضاء نفسه، كما يتداول على أمكنة النوم بعض الأبناء بحسب الليل والنهار.
حين يلتقي الجميع عادةً ما تندلع الخصومات بين الزوجين من جهة، أو بين الأبناء والآباء من جهة أخرى، فيفرّ بعضهم إلى الشارع، هربا من الصراعات وتجنبا للمرور إلى ما لا يحمد عقباه، أي العنف الجسدي. يكون الشارع في هذه الحالة "مؤسسة" للاحتواء والتهدئة ومعالجة النزاعات العائلية. ولذلك يقضي عديدون من أبناء تلك الفئات جل وقتهم في الشارع (المقاهي والحانات والساحات وملاعب الأحياء على قلتها)، خصوصا في ظل انتشار البطالة بشكل كثيف. تتشكل في تلك الفضاءات أوثق العلاقات والمشاعر والأحاسيس، ويتدرّب فيها الشباب، ويتلقون أهم دروس الحياة. ذلك ما بينه عالم الاجتماع، آصف بيات، في مؤلفاتٍ كثيرة تناولت ما يسميه "الشارع العربي"، متحدثا عن مصر ودول عربية أخرى كثيرة.
تجربة القرب التي أجبرنا عليه فيروس كورونا، والتي لم نستعد لها، فجّرت قضايا عديدة، إذ
يشعر أعضاء العائلة بأنهم تحت عين واسعة تحملق فيهم، وتضعهم تحت المجهر، فإذا كان العلماء يراقبون، في مخابرهم وفتحات مجاهرهم، الفيروسات، فإن الأبناء والأزواج يعتقدون، في غالب الأحيان، أنهم واقعون تحت رقابة بعضهم بعضا، يحصون أنفاسهم، علاوة على السلوكات والمشاعر والأفكار والانفعالات. وتتيح هذه الرقابة فرصة لاكتشاف الخصال، ولكنها تتيح أيضا اكتشاف عيوب كثيرة، وتدفع بعضهم على تصيّدها والصراع حولها. لا يتحمّل عديدون منا أن يكون في مخبر اجتماعي، يتفرّس فيه الغير ملامحنا وسلوكاتنا بصفة دائمة. لذلك ينتفض بعضهم احتجاجا على تلك الرقابة التي كثفها الحجْر الصحي.
تتكثف عمليات العنف في هذا الوباء، خصوصا في الأوساط الشعبية التي يتضاءل فيها الرأسمال الثقافي. وعلى الرغم من أنه لا توجد علاقة سببية واضحة بين ضيق المكان والعنف، كما أشير أعلاه، فإن دراسات كثيرة تشير إلى حالة الإحباط والهيجان النفسي والعصبي التي تصيب الأفراد، إذا ضاق عليهم المكان. وربما كان السجن لهذه الأسباب أشد أنواع العقاب وأقساها. ينزع الناس إلى العنف كلما ضاقت عليهم الأمكنة، وضاق عليهم خيالهم أيضا في تدبّر إدارة الفراغ الذي ينهشهم. لقد تضاعفت خمس مرّات حالات العنف في فرنسا وسبع مرات في تونس، ويبدو أن الأمر يتخذ هذا الاتجاه العام في مجتمعات عديدة أخرى.
لا يقتنع عديدون من شباب تلك الأحياء بسردية الدولة عن الوباء ومخاطره وتداعياته الممكنة، ويعتبرونها مبالغات صادرة عن رجال القطن والحرير "ذوي الثقافة المخملية والناطقين الرسميين باسم السلطة". ولذلك تظاهروا مندّدين بكورونا، ويتحدّونها من خلال مشاعر التهكم المرفوعة. "فتوات الحي" في مواجهة هذا الكائن اللامرئي والجبان الذي يغدر بضحاياه، ولا يبارزهم بوجه مكشوف. وحين يعجزون عن القبض عليه، لن يتورّعوا عن خرق الحجْر الصحي، وإضافة ضحايا آخرين إلى ضحاياه: الأقارب، المرافق العمومية.
من دون تعميمات مخلة في هذه الأحياء ذاتها، أيضا تجلت مبادرات تضامن وتآزر قاعدية قائمة على روابط القرابة والجوار، خففت من ضائقة الناس وآلامهم ومشاعر الوحدة التي نهشت أقواما أخرى، ما لا يعود إلى خرائط الجغرافيا المادية، بل إلى الخرائط الرمزية التي توجه سلوك الأفراد والجماعات إلى غايات، نعتقد أنها تمنح لوجودنا الاجتماعي المشترك معنى، خصوصا في محن الوباء واختباراته الشاقة.
تنقل إلينا الشاشات في بلدان عديدة تبرّم قاطني الأحياء الشعبية (العشوائيات)، حيث تقطن تلك الطبقات الفقيرة والمهمشة، بالحجر الصحي، بل وقفنا من خلالها على مسيراتٍ ليلية في بعض
لا تتمثل ساكنة هذه الأحياء الفضاء العام على نحو ما تتمثله بقية الفئات الأخرى. تتميز البيوت التي يأوي إليها أفراد هذه الأحياء بضيق المساحة، حيث تفيد دراساتٌ عديدة بأن ما بين خمسة أو ستة أفراد "يتكدّسون" في أمتار محدودة، لا تتسع للجميع، وأن هناك تداولا على الفضاء المنزلي، فإذا دخل الأب مثلا خرج الأبناء إلى الشارع أو المقاهي .. إلخ، بحيث يندر أن يجتمع جميع أفراد العائلة في الفضاء نفسه، كما يتداول على أمكنة النوم بعض الأبناء بحسب الليل والنهار.
حين يلتقي الجميع عادةً ما تندلع الخصومات بين الزوجين من جهة، أو بين الأبناء والآباء من جهة أخرى، فيفرّ بعضهم إلى الشارع، هربا من الصراعات وتجنبا للمرور إلى ما لا يحمد عقباه، أي العنف الجسدي. يكون الشارع في هذه الحالة "مؤسسة" للاحتواء والتهدئة ومعالجة النزاعات العائلية. ولذلك يقضي عديدون من أبناء تلك الفئات جل وقتهم في الشارع (المقاهي والحانات والساحات وملاعب الأحياء على قلتها)، خصوصا في ظل انتشار البطالة بشكل كثيف. تتشكل في تلك الفضاءات أوثق العلاقات والمشاعر والأحاسيس، ويتدرّب فيها الشباب، ويتلقون أهم دروس الحياة. ذلك ما بينه عالم الاجتماع، آصف بيات، في مؤلفاتٍ كثيرة تناولت ما يسميه "الشارع العربي"، متحدثا عن مصر ودول عربية أخرى كثيرة.
تجربة القرب التي أجبرنا عليه فيروس كورونا، والتي لم نستعد لها، فجّرت قضايا عديدة، إذ
تتكثف عمليات العنف في هذا الوباء، خصوصا في الأوساط الشعبية التي يتضاءل فيها الرأسمال الثقافي. وعلى الرغم من أنه لا توجد علاقة سببية واضحة بين ضيق المكان والعنف، كما أشير أعلاه، فإن دراسات كثيرة تشير إلى حالة الإحباط والهيجان النفسي والعصبي التي تصيب الأفراد، إذا ضاق عليهم المكان. وربما كان السجن لهذه الأسباب أشد أنواع العقاب وأقساها. ينزع الناس إلى العنف كلما ضاقت عليهم الأمكنة، وضاق عليهم خيالهم أيضا في تدبّر إدارة الفراغ الذي ينهشهم. لقد تضاعفت خمس مرّات حالات العنف في فرنسا وسبع مرات في تونس، ويبدو أن الأمر يتخذ هذا الاتجاه العام في مجتمعات عديدة أخرى.
لا يقتنع عديدون من شباب تلك الأحياء بسردية الدولة عن الوباء ومخاطره وتداعياته الممكنة، ويعتبرونها مبالغات صادرة عن رجال القطن والحرير "ذوي الثقافة المخملية والناطقين الرسميين باسم السلطة". ولذلك تظاهروا مندّدين بكورونا، ويتحدّونها من خلال مشاعر التهكم المرفوعة. "فتوات الحي" في مواجهة هذا الكائن اللامرئي والجبان الذي يغدر بضحاياه، ولا يبارزهم بوجه مكشوف. وحين يعجزون عن القبض عليه، لن يتورّعوا عن خرق الحجْر الصحي، وإضافة ضحايا آخرين إلى ضحاياه: الأقارب، المرافق العمومية.
من دون تعميمات مخلة في هذه الأحياء ذاتها، أيضا تجلت مبادرات تضامن وتآزر قاعدية قائمة على روابط القرابة والجوار، خففت من ضائقة الناس وآلامهم ومشاعر الوحدة التي نهشت أقواما أخرى، ما لا يعود إلى خرائط الجغرافيا المادية، بل إلى الخرائط الرمزية التي توجه سلوك الأفراد والجماعات إلى غايات، نعتقد أنها تمنح لوجودنا الاجتماعي المشترك معنى، خصوصا في محن الوباء واختباراته الشاقة.