11 نوفمبر 2024
كورونا .. مسافة أمان ضرورية
مع انتشار الوباء بشكل سريع ومريع، أصبح أحد الإجراءات الوقائية الأكثر رواجا بين الخلق هو مسافات الأمان التي يرسمها الأفراد كلما التقوا في فضاء واحد، وعلامات الذعر بادية على الجميع. لا أحد يحرص على الاقتراب من الآخر للسلام أو الكلام إلا لماماً. اختفت الحميمية والوشوشة والهمس حتى بين أعضاء الأسرة الواحدة. إذا دفعت الضرورة إلى مغادرة البيت، تحوط الجميع: إشارات وقفازات ومواد معقمة، وكثير من مشاعر الهلوسة التي تلازمهم حينا من الدهر.. طوابير يقف فيها الأفراد في سلاسل مفكّكة بينها مسافة. في المصانع والمعامل التي ظلت مفتوحة، على ندرتها، يزاول العمال أشغالهم متباعدين، أو يؤدّون ذلك من وراء حواسيب تعدّدت وظائفها بغير حساب.
جرت الأمور قبل ذلك في مفارقة شديدة التعقيد، غزيرة الدلالة. كان الترابط والتشابك قد رافقتهما حالة من "التجاسد"، أي اقتراب الأجساد من بعضها بعضا. مدارج الملاعب، قاعات المسارح، تظاهرات الاحتجاج وكرنفالات الفنون. انهارت المسافة ماديا ورمزيا بين الأفراد والجماعات، أجساد كتلة تتحرّك لا نميز بينها إلا بعسر. اخترعت البشرية التقنيات والتطبيقات والمنظومات الإعلامية المعقدة لتبين الأجساد عند الاقتضاء. ومع ذلك، صاحب ميلاد "الثقافة الجماهيرية" أو "مجتمعات الجماهير"، منذ الخمسينيات تقريبا، تفريد متسارع، أي مسارات تميز الفرد وإكسابه خصوصية جوهرية، يستحيل بعدها ردّه إلى تطابق مع الجماعة.
كانت المجتمعات، إلى وقت قصير، تتباهي بمكسبين وتفتخر بهما، حتى غدا ذلك علامة تجارية
دالّة على امتلاك الحداثة والانتماء إليها، الدولة الوطنية والارتباط بالعالم في الوقت نفسه، من خلال الانخراط في الشبكات التي وفّرتها التقنيات: شبكات التواصل، شبكات الطرقات، شبكات التجارة، شبكات التعلم، إلخ. لم يعد من الممكن أن تنعزل المجتمعات، وقد صار العالم قرية، إلا إذا كان هذا الخيار عنادا، عادة ما تدفع الأنظمة والبلدان ثمنه باهظا، حيث يتم إخراجها من دائرة العالم وشبكاته، وتقدم كوريا الجنوبية حالة مثلى لهذا السلوك. لقد أصبحت المجتمعات مرتبطة ماديا ورمزيا، حتى غدت كيانات الانتماء الفردية والجماعية: دولة، قبيلة، أسرة، كلها تغدو لزجة ومائعة. انهارت الحدود وتكشفت أنسجة الشبكات التي تلفنا، فلا نستطيع النجاة من أحابيلها.
ظل وباء الكوليرا محصورا في قارة آسيا خلال كامل القرون الوسطى، ولم يصل إلى أوروبا إلا أواخر القرن التاسع عشر، وكان ذلك ناجما عن بطء حركة النقل بين الدول. وما أن تطورت وسائل النقل، حتى امتطت الفيروسات والجراثيم تلك البواخر والطائرات السريعة، وسبقت حركة الهواء وانشترت في أرجاء الكون. في العقود الأخيرة، استفادت الجراثيم والفيروسات من هذه القرية الكونية، وغدت أكبر مستثمر من إزالة الحدود، ولربما هي مدينة للمنظمة العالمية للتجارة في جهدها لإزالة الحدود تلك. ويجعلنا الدفع باتجاه هذه الفرضية قاب قوسين أو أدنى من أطروحة المؤامرة التي همست بها الصين، على خلفية توتر تجاري بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية.
ظلت الدولة لدى "العولميين" قمعية تحدٍّ، مهما كانت ليونتها، أما الحدود فكانت مرادفا لكراهية
الأجانب. ينكر هؤلاء وجود مواطنين، وينشد هؤلاء تناسل أفراد متذرّرين يتجولون، من أجل اقتناء السلع والأفكار أيضا التي تنشد إفناء الدولة باعتبارها قيداً، غير أن فيروس كورونا داهمنا ودفعنا إلى الركض باتجاه أحضان الدولة الوطنية، بل ها هو يعيد حشرنا في مجموعاتٍ ضيقة، أهمها العائلة. وعرّى الفيروس هشاشة الأنظمة الصحية الوطنية، حتى داخل الدول التي كانت تفاخر بقدراتها العلمية والصحية والبحث العلمي، فقد تبين أن أنظمة التوقي والحذر والتخطيط واليقظة الاستراتيجية كلها تتهاوى أمام الفيروس، وقد غدا على كل شيءٍ قديرا.
هل نشهد "نهاية التاريخ" والعودة إلى ما قبله، حيث نركن إلى عهود حجرية، يكفّ فيها الإنسان من الاقتراب إلى شبيهه خوفا، وإذا ما تم تهديده، هرع إلى حضن أهله؟ تلك هي مسافة الأمان التي نعيد رسمها، وقد غدت الدولة الوطنية أمة منقذة.
تبدو العولمة المنتصرة هذه الأيام ذلولة، وفيروس كورونا يصيبها في مقتل، فلا ينجدها أحد. العلم عجز، الأمن أخفق، وكل الحيل انهارت. قد تجد البشرية علاجا في الأشهر المقبلة. ولكن مسافات الأمان ستكون ضرورية، حتى لا تعاد أخطاء العولمة القاتلة: محو الحدود، غطرسة رأس المال واستهتاره بالدولة الوطنية، علاوة على تدميره الطبيعة، والصراعات المدمّرة من أجل التسلح. مسافات الأمان ضرورة، حتى لا ترتطم البشرية برخام الألم القاتل.
كانت المجتمعات، إلى وقت قصير، تتباهي بمكسبين وتفتخر بهما، حتى غدا ذلك علامة تجارية
ظل وباء الكوليرا محصورا في قارة آسيا خلال كامل القرون الوسطى، ولم يصل إلى أوروبا إلا أواخر القرن التاسع عشر، وكان ذلك ناجما عن بطء حركة النقل بين الدول. وما أن تطورت وسائل النقل، حتى امتطت الفيروسات والجراثيم تلك البواخر والطائرات السريعة، وسبقت حركة الهواء وانشترت في أرجاء الكون. في العقود الأخيرة، استفادت الجراثيم والفيروسات من هذه القرية الكونية، وغدت أكبر مستثمر من إزالة الحدود، ولربما هي مدينة للمنظمة العالمية للتجارة في جهدها لإزالة الحدود تلك. ويجعلنا الدفع باتجاه هذه الفرضية قاب قوسين أو أدنى من أطروحة المؤامرة التي همست بها الصين، على خلفية توتر تجاري بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية.
ظلت الدولة لدى "العولميين" قمعية تحدٍّ، مهما كانت ليونتها، أما الحدود فكانت مرادفا لكراهية
هل نشهد "نهاية التاريخ" والعودة إلى ما قبله، حيث نركن إلى عهود حجرية، يكفّ فيها الإنسان من الاقتراب إلى شبيهه خوفا، وإذا ما تم تهديده، هرع إلى حضن أهله؟ تلك هي مسافة الأمان التي نعيد رسمها، وقد غدت الدولة الوطنية أمة منقذة.
تبدو العولمة المنتصرة هذه الأيام ذلولة، وفيروس كورونا يصيبها في مقتل، فلا ينجدها أحد. العلم عجز، الأمن أخفق، وكل الحيل انهارت. قد تجد البشرية علاجا في الأشهر المقبلة. ولكن مسافات الأمان ستكون ضرورية، حتى لا تعاد أخطاء العولمة القاتلة: محو الحدود، غطرسة رأس المال واستهتاره بالدولة الوطنية، علاوة على تدميره الطبيعة، والصراعات المدمّرة من أجل التسلح. مسافات الأمان ضرورة، حتى لا ترتطم البشرية برخام الألم القاتل.