قدم نظرية الذكاءات المتعددة مجموعة من العلماء على رأسهم "جاردنر" في ثمانينيات القرن الماضي، واعترفت بها العديد من الهيئات العلمية الدولية، بينما تحفظت عليها هيئات أخرى معترضة على استخدام كلمة "ذكاء" في التعبير عن القدرات الموسيقية أو الاجتماعية أو الحركية!
ولعل الإجابة عن السؤال التالي تنصف تلك النظرية، والسؤال هو: هل يركل نجم كرة القدم العالمي ليونيل ميسي الكرة بقدمه أم بعقله؟ ليست موهبة "ميسي" في قدمه، ولكن موهبته في عقله الذي استطاع في جزء من الثانية أن يقوم بحسابات معقدة فيعرف الزاوية القضلى لاتجاه الكرة، وبناء على هذه الحسابات يوجه عقله أوامر محددة إلى قدمه لتركل الكرة... وكذلك، عندما يعزف العازف الموسيقي مقطوعته، هل يعزفها بيديه أم أن الموهبة في عقله الذي استطاع استقبال الإشارة من الأذن وتمييز اللحن، فأعطى الأوامر العصبية إلى اليدين لتعزفا!
لا خلاف على أن "العقل" هو مركز جميع الأوامر لكل أجزاء الجسم، وبالتالي فإن كل صورة من صور التميز هي في الحقيقة نابعة منه، وبالتالي يمكن اعتبارها صورة من صور الذكاء طالما أن أصلها هو العقل.
لذلك، يمكننا أن نعتبر أن قدرة العقل على التعامل مع الموسيقى هي ذكاء الموسيقي، وقدرة العقل على التعامل مع اللغة وفهمها هو الذكاء اللغوي، وقدرة العقل على التعامل مع الصورة
هوالذكاء الفراغي، وقدرة العقل على التعامل مع الناس هو الذكاء الاجتماعي، وقدرة العقل على التحكم في العضلات هو الذكاء الحركي! وهذه هي الذكاءات المتعددة الأساسية.. بالإضافة طبعا إلى الذكاء المنطقي هو قدرة العقل على التعامل مع المنطق والأرقام (وهو الذي يعتمد عليه في تقدير ما يسمى بالذكاء العام IQ).
أنواع الذكاء
ونحن نمتلك جميع هذه الأنواع من الذكاءات، ولكن بنسب متفاوتة، ولذلك يأتي هنا السؤال الأهم: أي نوع من أنواع الذكاءات التي يجب أن اكتشفها وأهتم بها في ابني؟ الأنواع العليا أم الدنيا والإجابة بكل تأكيد: نحن نهتم أكثر بالذكاءات العليا. فعلى سبيل المثال: إذا كان الذكاء الأعلى لابنك هو الفراغي، بينما يعاني من انخفاض الذكاء الاجتماعي، اهتمي بالفراغي وهذا بالتدريج سيرفع الاجتماعي مع الوقت، لأن ابنك الذي يحب الرسم أو التصوير (الذكاء الفراغي) سيشترك في دورات ومسابقات وينجح فيها فيكتسب ثقته بنفسه، وبالتدريج سيبدأ في تكوين علاقات –بحكم نجاحه وعمله – وعندئذ يتحسن ذكاؤه الاجتماعي.
ونشير هنا إلى أننا لا نريده أن يصل لدرجة "التميز" في تلك الذكاءات الدنيا لديه، فهي ليست هدفنا، وإنما هدفنا الذكاءات العليا لأنها نقطة قوته التي يمكن أن يبني عليها حياته، وليس عيبا ألا يكون متميزا في كل النواحي، وليس عدلا أن نطلب منه الكمال.
ويأتي السؤال التالي: كيف أكتشف الذكاء الأعلى لدى ابني؟ وكيف أنميه؟ وهنا سأركز على خمسة أنواع فقط من الذكاءات، (في الحقيقة توجد أنواع أخرى ولكنني سأختار هذه المجموعة):
الذكاء الموسيقي
الطفل الذي يتمتع بذكاء موسيقي تكون فيه معظم هذه العلامات: صوته حلو، وهو يدندن طوال الوقت بهذا الصوت العذب الذي يستمتع به الآخرون. وهو ينجذب للآلات الموسيقية ويتحمس لتعلمها وبالفعل يتعملها بسرعة دون سأم. وتنميته تكون من خلال إدخاله كورال غنائي، وتعليمه آلة موسيقية، وإثراء ثقافته الموسيقية بالقراءة وحضور الحفلات والندوات الموسيقية.
الذكاء اللغوي
هذا الطفل يمتلك حصيلة لغوية أكبر من سنه، ويحب دروس اللغة، ولديه دائما مذكرات وكتابات جيدة تسبق سنه أيضا، ويحب القراءة وخاصة الروايات والشعر والأدب. وتنمية هذا الذكاء تكون بعمل قاموس ذاتي للطفل مبكرا، وإشراكه في جماعات النشاط التي لها علاقة بالكتب والقراءة، ثم المسابقات الأدبية، وإهدائه الكتب والروايات دائما.
الذكاء الفراغي
هذا الطفل له علاقة فريدة مع الصورة رسما أو تصويرا أو تشكيلا، يرسم جيدا أو يحكي بالرسم، وله خيال بصري جيد جدا يظهر في تشبيهاته وحكاياته، وهو دائما يمسك بالورقة والقلم ويصنع أشكالا. هذا يحتاج دورات في الرسم أو التصوير أوالأوريجامي وكذلك الفنون البصرية وبرامج التصميم على الكمبيوتر.
الذكاء الاجتماعي
هذا الطفل له دائرة علاقات واسعة، مع أطفال من مختلف الأعمار، يسعد بالتنزه معهم والاشتراك في أنواع مختلفة من الأنشطة معهم؛ تطوعية أو ترفيهية أو مدرسية. ولتنمية هذا الذكاء يحتاج لممارسة الألعاب الجماعية والانخراط في مشروعات تعتمد على العمل في فريق وحضور دورات في القيادة والعمل الجماعي أو أي صورة من صور مساعدة الآخرين.
الذكاء الحركي
وهو ذو طيف واسع جدا، فإن كان متميزا في التحكم في عضلات الوجه فهذا دليل تفوق في الفنون التمثيلية، وإن كان في عضلات اليدين فهو متميز في الحرف اليدوية، وإن كان في عضلات الجسم عموما فهو محب للرياضة والألعاب الحركية. وتكون التنمية بإشراكه في نوع النشاط الأقرب لذكائه الحركي، سواء كانت دورات رياضية أو فنية أو حرفية.
والأب الواعي أو الأم الواعية هما اللذان يستطيعان اكتشاف ودمج نوعين أو أكثر من الذكاءات العليا فدمج اللغوي مع الاجتماعي يمكن أن يخلق رائدا مجتمعيا أو مذيعا أو داعية، ودمج الاجتماعي مع الحركي يمكن أن يخلق معالجا بالدراما أو صاحب مبادرة للتعليم من خلال الحرف... إلخ
وتبقى الرسالة الأهم: خذ وقتك في الاكتشاف، لا تتسرع في الحكم، وخذ وقتك أيضا في التنمية وستذهل من الحصاد، وستقدم لابنك الحياة الحقيقية، لأنه عندئذ سيكون نفسه، يعمل ما يحبه فلا يصبح غريبا عن ذاته.