أرق. ليس أرقاً من النوع المعتاد. ليس أرقاً مزمناً يحيّرنا، فنتساءل عن بواعثه. تزداد تساؤلاتنا، فيزداد أرقنا.
أرق. لا نتحقّق من الوقت مرّات ومرّات. لا نحاول عدّ الخراف. لا نشغّل موسيقى رائقة. لا نعدّ مشروباً ساخناً. لا نتناول اللبن. لا نطلب من الجار الصيدليّ إهمال الأصول، ومدّنا بأقراص مهدّئة منوّمة.
أرق. هو أرق مغاير. أرق واعٍ. أرق ندرك تماماً بواعثه. أرق قلق. لا بدّ من اتخاذ قرار. وهنا الأمر الجلل. القرار مصيريّ. نقع في الحيرة. نرتبك. نتخبّط في تعليلات وحجج.
أرق. لا بدّ من اتخاذ قرار. نتردّد. نخشى الحسم. الحسم قد يورّطنا.
قد يفسَّر ذلك بتردّد مزمن. قد نكون من هؤلاء الذين يتوقّعون دائماً أن يتّخذ "الآخرون" القرارات بدلاً عنهم. هكذا، لا نتحمّل مسؤوليّة خياراتنا. نرمي تلك المسؤوليّة على الآخرين. أليسوا هم الذين اتّخذوها، في النهاية؟
إذا غلّبنا المنطق، ندرك أنّ كلّ قرار قد يحلّ مشكلة، غير أنّه قد يخلّف أخرى. قد يخلّف ورطة.. مأزقاً. ثمّة ثمن لا بدّ من تسديده، دوماً. لكلّ خيار مفارقاته وتناقضاته وحسناته وسيّئاته. ويصعب اتخاذ القرار.
قد تمنعنا من اتخاذ ذلك القرار، معادلة سهلة. عدم اتخاذه يعني عدم الفشل. عدم اتخاذ القرار يعني عدم الإنجاز. بذلك، قد نبقي على وهم قدراتنا. لا نخاطر في اتخاذ قرار، فنبقى واهمين بأنّنا قادرون على النجاح في كلّ شيء.. بأنّنا معصومون عن الخطأ. لا نفشل إذا لم ننجز. هذا ما يقوله المنطق كذلك.
إلى خشيتنا الفشل، تُضاف خشية الخسارة.. خسارة ما نملك.. خسارة من نحب. ونقلق من أن نضطرّ إلى التخلّي عن كلّ الاحتمالات والفرص والاكتفاء بواحدة. نجزع من الاختيار. ماذا لو أخطأنا فيه؟ ماذا لو صعب الرجوع عنه؟ ماذا لو كان مبرماً؟ ماذا عن صورتنا؟ ماذا عن حرج محتمل، لا بل حتميّ؟ ماذا عن الآخر، عن الآخرين؟
الآخر. نهرب من اتخاذ القرار، خشية على ذلك الآخر. كثيرون منّا يهربون. نخاف على ذلك الآخر من أنفسنا. نخشى خدش إحساسه وخسارة ثقته.. وخسارته.
الأمر، قد يعيده بعض هؤلاء الذين احترفوا الغوص في الذات البشريّة، إلى أنّنا بالغنا خلال طفولتنا في تطويع أنفسنا، إلى أنّنا بالغنا في التكيّف مع رغبات الآخرين. لا شكّ في أنّ تلك المبالغة لم تكن واعية مدركة في ذلك الحين، إلا أنّها حصلت. هي رغبات من نحبّ، رغبات من نخاف، رغبات من نخاف عليهم، رغبات من نخاف خسارتهم.. لا سيّما رغبات الأهل. بالغنا إلى حدّ إهمالنا رغباتنا الخاصة.. إلى حدّ إهمالنا أنفسنا. لم نعد ندرك أنّ لنا رغبات.. ونوشك على خسارة أنفسنا.