لحم معلّب
طالما نهيته عن شرائها، لأنها ضارة بصحته، لاحتوائها على نسبة عالية من الدهون المشبعة الضارة بالقلب، حيث ترفع نسبة الكوليسترول السيئ في الدم، فأنا ألاحظ أنه يشتري منها كميات كبيرة. وأخيراً، باح لي بالسر، لكي أطمئن على صحته، فهو يشتريها ليوزعها على المعوزين ممن يعرف، فعبوات اللحم المعلّب تذكّره بحنان واهتمام أمه اللذين كانت تخصه بهما، فهي قد قررت أن تمنحه عبوة من اللحم المعلب التي كانت توزعها "أونروا" لعائلات اللاجئين في غزة بعد النكبة، وكانت جدتي تبيعها لتشتري بها أشياء أخرى، تراها أكثر أهمية، لكنها أبقت على عبوةٍ، وأخفتها عن أعين أخوته، لكي تكون غداءً لأبي، في أحد الأيام، حيث كان يستعد للتقدم لامتحان التوجيهي في 1961، فيتذكر أبي ذلك الماضي الحاضر، كلما رأى هذه العلب المختومة من الخارج بختم "أونروا"، مع تنبيه بأنها ليست للبيع، والمكدسة أمام أبواب مدارس الإيواء ومراكز توزيع المعونات التابعة لـ"أونروا"، حيث تباع بأثمان رخيصة، ليشتري النازحون الجدد بثمنها أشياء أكثر أهمية، فـ"أونروا" لا زالت على دأبها منذ أكثر من ستين عاماً، حيث توزع هذا الصنف من المعونات العينية على اللاجئين الفلسطينيين، أينما كانوا، وتصر "أونروا" على أنها تقوم بمهامها الإنسانية نحوهم على أفضل وجه، على الرغم من كل ما يشاع عن تقصيرها، مثلما أشيع قبل أسابيع عن وجود فأر ميت في داخل طعام مغلف، كان في طريقه إلى إحدى مدارس الإيواء في بيت حانون شمال غزة.
اللحم المعلب تبتكر بواسطته ربات البيوت، الغزيات الفقيرات، أصنافاً من الطعام يقدمونها لعائلاتهم دائماً، وتحصل كل عائلة لاجئة على معونة طارئة، كل ثلاثة أشهر، تشمل الطحين والأرز والزيت والحليب المجفف، إضافة إلى اللحم المعلب الذي يقلى مع البصل والبيض والبندورة، ويقدم عوضاً عن استخدام اللحم الطازج الذي لا تقوى الأسر المعدمة على شرائه، على الرغم من أن اللحم المعلب يعتبر الطبق الأساسي والتقليدي في الولايات المتحدة الأميركية في يوم واحد سنويا فقط يسمي عندهم "يوم سانت باترك". ويتبع الإيرلنديون العادة نفسها، حيث يستخدمونه في بعض الاحتفالات، حسبما هو متبع في تراثهم الشعبي منذ العام 1700، ويقدم في وجبة العشاء تحديداً، إلا أنه وجبة إجبارية لهؤلاء الفقراء، حيث يحصل كل فرد من العائلة على خمس عبوات من اللحم المعلب تقريباً. وقد قالت لي إحدى الأمهات إن كل واحد من أبنائها يخفي حصته من اللحم المعلب، حتى ينفد كل ما لدينا في البيت من عدس وأرز، ليبدأون باستهلاك هذه العبوات، بعد طهوها بطرق مختلفة، على سبيل التنوع، كي لا يصابوا بالضجر من تناول صنف واحد يومياً، حتى يحين موعد الدورة التالية من المعونات، والتي تأتي بعد مرور ثلاثة أشهر من تسلمهم المعونة الأخيرة، والعائلات الفقيرة المحظوظة هي التي يقع عليها الاختيار العشوائي، فتحصل على ما تعرف بـ"كوبونة صفراء"، أي أنها ستحصل على كمية مضاعفة من المعونات العينية المعتادة، بما فيها علب اللحم المعلب.
على عكس أمي، فقد قالت لي ودموعها تحاذي وجنتيها: لا أشتري هذه العبوات إطلاقاً، ولا أقبلها هدية، لأنها تذكرني بما لاقيته منذ سنوات في بيت عائلة زوجي الكبيرة، فحين كان زوجي وأشقاؤه يعودون من العمل، تطلب مني حماتي "أمهم" أن أفرغ محتويات عبوة من اللحم المعلب، وأضيف إليها البهارات، وأسخّنها على نار هادئة، وأعدّ طبقاً كبيراً من السلطة الغزاوية الحارة مع طبق من الزيتون الأسود، وأضع كل هذا أمام الرجال الجائعين، فليتهمونه بسرعة خاطفة، وأنا أنظر لهم من بعيد، وأتمنى لو تذوقت اللحم المعلب. ولكن، هذا لم يحدث أبداً، وكنت أتناول ما يتبقى من السلطة في الزبدية "طبق فخاري"، ومرت السنوات، وأنا أكرهها، لأنها تذكّرني بأيام الذل في بيت العائلة، حتى توفي والدا زوجي، وأصبحت لنا عائلتنا المستقلة، فلم يدخل اللحم المعلب من وقتها إلى بيتي.