لماذا تنتحر الأحلام؟
أن تسجل خمس حالات انتحار في غزة، مع بداية العام الحالي، فيما تسجل خمس حالات انتحار خلال العام المنصرم 2015، فمعنى ذلك أن انفجاراً وشيكاً أصبح يهدد المجتمع الغزي الذي عانى عشر سنوات من الحصار، فأصبح شبابه يقبلون على الانتحار حلاً أخيراً، والشباب عماد الوطن، كما حفظنا في دروس اللغة العربية في المدرسة، عندما كنا مراهقين وشباباً، والسبب الذي تتعجل وسائل الإعلام نشره وراء كل حالة انتحار هو تردّي الأوضاع المعيشية التي وصلت بهم إلى درجة إزهاق الروح، أي الانتحار بطرق متعدّدة، ما بين الشنق والقفز من علو والحرق.
الإقدام على الانتحار، أو قتل النفس جريمة نادرة في غزة، حيث المجتمع محافظ على معتقداته الدينية، ويعرف حرمة قتل النفس، ويعتبر شيوخ العشائر فيه أن إقدام أحد أبناء العشيرة على الانتحار وصمة عار في جبينها، لأن معنى ذلك أن عائلته المنتمية للعشيرة لم توفر حياة كريمةً لابنها، حتى دفعته إلى الانتحار، وهذا ما حدا إلى إصدار إحدى العائلات بياناً سريعاً، تنفي شبهة الانتحار عن ولدها الذي انزلقت قدمه عن حافة الشرفة في أثناء وقت انقطاع الكهرباء المتواصل في غزة. وأكدت العائلة أنها على جانبٍ من الثراء، حيث تمتلك أراضي زراعية، وأن الابن يعيش حياة أسرية مستقرة، ولديه عمله، ويحافظ على فروضه الدينية.
الانتحار الذي يفجع قلوب الأمهات والآباء يقدم عليه شبّانٌ حلاً أخيراً بعد فقدانهم الأمل، وتمرّغهم في وحل اليأس سنوات، فأطلقوا على أنفسهم رصاصة الرحمة، ولم ينتظروها من العالم الذي تجاهل مطالبهم وحقوقهم، وتعامى عن كونهم في سن الشباب، حيث الطموح والآمال الجامحة، ودفع بهم إلى صفوف العجزة والعاطلين، وأبقاهم في بيوتهم ينتظرون المعونات من "أونروا" ووزارة الشؤون الاجتماعية، وأصبحوا آلاتٍ معطلةً يعلوها الصدأ.
علمياً، وعند تحليل الفيزيولوجية المرضية للانتحار، تبين أن تفاعل العوامل السلوكية والبيئية والنفسية والاجتماعية معاً تنجم عنه حالة الانتحار التي قد يسبقها الاكتئاب، وقد وجد من تحليل جثث المنتحرين انخفاض في "السيروتونين"، وهو ناقل عصبي في الدماغ، ويحدث الانخفاض فيه، بسبب العوامل البيئية المحيطة بالمنتحر. ولذلك، سبب معظم حالات الانتحار المسجلة عالمياً انخفاض المستوى الاقتصادي، وتدهور العلاقات الاجتماعية في بيئة المنتحر، علماً أن الانتحار هو السبب العاشر للوفاة عالمياً، وإن كان هناك من يذهب إلى التحليل أن حالات الانتحار في غزة لا تعد ظاهرة حتى الآن، فإن محاولات الانتحار بلغت أعلى مستوى خلال العام 2015، حيث وصلت إلى 500 حالة تقريباً، والمعروف أن من يحاول الانتحار مرة فهو يحاول مراتٍ حتى ينجح. وعلى ذلك، تحتاج هذه النسبة المرتفعة في مجتمعٍ تحكمه القيم الدينية لبحث الأسباب وعلاجها. وليس خافياً أن الوضع المتردّي، والذي تعيشه غزة، هو السبب الأول، وقيام وسائل الإعلام بدورها على أكمل وجه، من ناحية بث روح اليأس في قلوب الشباب والمراهقين، حيث هاتان الفئتان هما الأكثر إقداماً على الانتحار، حسب الإحصائيات العالمية. ولي أن أوجه دعوة إلى المربين والإعلاميين وأولياء الأمور بتزيين الواقع، وتذكير الشباب ذخيرة الوطن بأن غزة كانت، وما زالت، منبع العلماء والعظماء والنابغين، وهي التي ولدت أطفال الحجارة الذين أرهبوا جيش الاحتلال، فكيف يتخاذلون، ويتخلون عن حلمهم بأن الأيام المقبلة ستكون أفضل.
كان ابني يضج طموحاً، بحكم سنه الصغير، ومع تخصصه الجامعي المميز أصبح يتحدّث بلهجة عجوز، بعد محاضرةٍ لأستاذه الجامعي، عن آلاف الخريجين العاطلين في غزة، وقلة الوظائف وارتفاع معدلات الفقر والبطالة. وأنهى المحاضرة بقوله: انظروا إلى الباعة الجائلين حول أسوار الجامعة، فأكثرهم من حملة الماجستير والدكتوراه، وهكذا ذاب الطموح في قلب ابني، وأصبحت "الخطبة العصماء" التي ألقاها أستاذه دستوراً له، ولم يعد يتحدث عن الأمل والمستقبل، كما كان يفعل. ولذلك فجعت بحادثة انتحار أحلام ابني الجامعي الشاب، فعندما تنتحر الأحلام تغيب العقول، ولو بقيت الأجسام على قيد الحياة.