سؤال طالما تردد صداه مخترقاً أمواج العقل والنقل، متجاوزاً حدود المنطق؛ لماذا يقتلني عسكري بلادي، من يشاركني أرضي ويستظل سمائي ويخالطني لوني وشكل سحنتي وتقاسيم مظهري؟ تنامى هذا التساؤل بعد الثورات العربية، وبات هاجساً يؤرق الكثيرين، تعلّمت الشعوب العربية إجابته بالطريقة الصعبة المرهقة بحروف الأشلاء ونقاط الدماء.
في أنظمة الاستبداد لا فرق بين عسكري وآخر، لا فرق بين دولة وأخرى، فالمنظومة واحدة في تعاليمها وفي آلياتها وفي مآلاتها، لا يمكن أن يعتمد أحد في أي مكان على تحولها، وعندما تحين ساعة الصفر التي يحددها المستبدون سيكون أولئك السذج من يعولون على جيوشهم العظيمة أول من يكتوي بنارها، ويتلظى بلظاها، حيث إن الجيوش النظامية تتبنى عقائد من نوع خاص تسمى العقائد العسكرية من بديهياتها السمع والطاعة لمن يحمل نجوماً ونياشيناً أكثر ولو كان بليداً سخيفاً لم يتجاوز معدله الدراسي حدود الخمسينيات، وتعد أقوى مؤهلاته أهله وعشيرته العرقية أو الحزبية!
من يقرأ قليلاً في سيكولوجية الاستبداد وقيادة الجماهير يدرك أن البشر بطبعهم يميلون إلى المقاربات العاطفية، ولا يستسيغون المحاجات العقلية؛ فلا تؤثر عليهم أقوى المطارحات المنطقية حينما يتبنون موقفاً ما، رغم أنهم دون استثناء يدّعون العقلانية والموضوعية، وهذا ما يعتمد عليه أي جيش في العالم حينما يعمد إلى عزل جنوده عن العالم، ويقدمون لهم وصفاً يليق بهم عن الحياة. ومن أبرع من تنبّه إلى هذه التفاصيل عالم الاجتماع الأميركي إيريك هوفر، حينما قال: (إن دور الخيال في تلطيف قسوة القتل والموت يتضح أكثر ما يتضح في حالة الجيوش. إن الملابس العسكرية والأعلام والشعارات والاستعراضات والموسيقى والطقوس الصارمة والأتيكيت المحكم، كلها وسائل لفصل الجندي عن نفسه الحقيقية المكونة من لحم ودم، وطمس لحقائق الموت والحياة. وليس من قبيل المصادفة أننا نتحدث عن "مسرح الحرب" وعن "مشاهد المعارك").
ومراحل تحول العسكري من الحالة الإنسانية إلى الحالة الوحشية تمر بعدد من المراحل أولها القابلية لإطاعة الأوامر، فحينما يكون لدى النظام المستبد أفراد لديهم القابلية لإطاعة الأوامر، فإن إيذاء الطرف الآخر سيحدث فعلياً حتى لو تعارض الإضرار مع مبادئ هؤلاء الأفراد، وقيمهم، ومعتقداتهم، وضمائرهم الفردية، وهذه القابلية تكون أعظم في الجندي، ولهذا نجد في التاريخ أن الجرائم التي ارتكبت طاعة للأوامر أكثر من التي ارتكبت باسم مخالفتها!
وقد وجد علماء النفس في تجارب مثيرة للاهتمام كانت نتائجها صادمة أن الإنسان العادي بوجود سلطة عليا يمكنه أن يوقع الأذى بالطرف الآخر كائناً من كان، وذلك عندما تتوفر سلطة إصدار الأوامر، ويوجد من يتحمل المسؤولية عنه.
وبما أنه من الصعب تحدي السلطة، فإنه من السهل إهمال صوت الضمير، وغض الطرف عن معاناة الطرف الآخر "الضحية" وعدم الاكتراث لمعاناته وصرخاته وآهاته.
ويلاحظ أن هناك عدداً من العوامل التي تحوّل الإنسان الطبيعي إلى مرتكب جرائم بشعة ومتبع أعمى للاستبداد؛ فكل ما يحتاجه المستبد إيجاد أيديولوجيا ونُظُم تجعل كل شيء يبدو منطقياً، بمبررات مثل: حفظ الأمن، وحماية المجتمع والصالح العام، والقضاء على الرجعية والتخلّف، ومكافحة العمالة، والهرطقة، وحماية الدين، والقضاء على الإلحاد. ثم تبدأ بتوزيع الأدوار، وكل فرد يطلع بدور صغير؛ فالمسألة تحتاج إلى تدرّج حتى يقبل الفرد العادي أن يتحول إلى أداة طيّعة في يد الطغيان.
وحتى تكتمل الصورة، يُظهر المستبدون أنفسهم بأنهم الوطنيون، أتباع الإله الملتزمون بتعاليمه، محبوا الخير وناشروه، حاموا الديمقراطية، أهل الخير، مقاتلوا الظلام، المُخْلصون المُخَلّصون المجتمع من الظلامية والرجعية. ولعل صموئيل جونسون أصاب كبد الحقيقة حينما قال إن الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد!
ولنشر هذه الأيديولوجيا تستعين الأنظمة المستبدة بالإعلام وفق منظومة "البروباغاندا"، لتصور نفسها بكل أوصاف الكمال، وتصف الآخر بكل النقائص والبهيمية واللاإنسانية حتى تجعل تعرضهم للأذى أمراً سهلا ليس على العسكري وحسب بل حتى على عامة الناس. ولهذا يقتلنا العسكري!
(البحرين)