عُرضت مؤخرًا مسرحية في الجامعة الأميركية في بيروت، للمخرجة اللبنانية لينا أبيض، بعنوان "نوم الغزلان". ولعلّ الثقافة بذلك، تقيم جسرًا بين "الشعبين الشقيقين"، خاصّة وأن السياسة أفسدت إلى حدّ كبير تلك العلاقة، فضلًا عن أن لجوء السوريين بأعداد كبيرة إلى لبنان، سهّل على بعض اللبنانيين تصدير خطاب عنصري ضدّهم، على أقل تقدير.
التقى "ملحق الثقافة" بالمخرجة، وسألها بدايةً عن عنوان عملها فأجابت: "هو نوم الميت كما وصفته الروائية سمر يزبك في كتابها "تقاطع نيران"، وهو نوم السوريين منذ خمسين عامًا حين كانوا ينامون بعيون مفتوحة بسبب الرعب من الأجهزة المخابراتية السورية الذي لا يوصف، وهو نومهم الآن حين يخافون على ما بقي من يقظتهم من الموت".
ويبدو أن "أدب السجون السوري"، قد ولّد لدى أبيض اهتمامًا كبيرًا، خاصّة وأنه في جلّه نابع من شهادات وتجارب معيشة :"دخلت عالم سجون الرأي السورية الساكن في روايات السوريين وفي أشعارهم وقصصهم، لقد دخلته مع مصطفى خليفة حين قرأت "قوقعته" وسجنني بداخلها طويلًا. وحين كنت أذهب لدمشق للمشاركة بمهرجانات مسرحية ولألتقي بهم وأسمعهم. وعرفته أيضًا حين رجعت إلى لبنان بعد خمسة عشر عامًا تملؤني رغبة هائلة لزيارة قبر أبي الذي مات وأنا في فرنسا. في الطريق إلى المقبرة لم أشاهد الحاجز السوري، لأن روحي كانت تسبقني إلى قبر أبي، لكن الضابط السوري حينها أوقفني، ولم يصدق تبريري، وعقابًا لي، لأني لم أنتبه، حكم علي بالوقوف خارج سيارتي في شمس الصيف الوقحة ساعة كاملة. في هذه الساعة أحسست فعلًا باليتم، وفهمت تمامًا ماذا يعني أن أكون يتيمة الأب والوطن".
موضوع اليتم، حاضرٌ في المسرحية، كمشهد خلفي وفقًا لما تقول لينا: "نعم أعتقد أنه كان دائمًا الخلفية لكل المشهد، تطل برأسها في روح ووجع وحتى في تناقض شخصياتي".
اقــرأ أيضاً
الشاعر والكاتب
واستعانت لينا كذلك بأصوات السوريين الذين قرأت لهم: لماذا إذن صوت فرج بيرقدار وصوت ياسين الحاج صالح، الصوتان اللذان يشدان القلب من شعره؟ لماذا هما الصوتان اللذان يتكلمان ويتحركان بخفة ليس فقط من خلال قراءة بعض من النصوص وإنما هما يتحركان في عيون ونبرة كل أشخاص المسرحية؟". وتضيف عن تأثير تلك الكتابات في نفسها قائلة: "حين قرأت فرج بيرقدار في نصوص تغريبتي في سجون المخابرات السورية، أصابتني حالة غريبة جدًا لم تصبني أبدًا من قبل. أدخلتني فيها، لأصبح ساكنة بين جمل فرج الصادقة والرشيقة والبعيدة عن الزخرف والابتذال، بين تجربة موجعة حتى الرغبة في الموت، تجربة تتكرر الآن في كلّ ما يعيشه السوري منذ خمس سنوات. هذا الدخول لعالم فرج، دفعني لشعور آخر، إذ وجدت نفسي لا أستطيع البتة متابعة حياتي من دون أن أقدم شيئًا معادلًا لتلك الزلازل التي أثارها النص في روحي. لم يكن ممكنًا أن أبقى صامتة ولو لساعة واحدة بعد كل ما أشاهده وما أعيشه هنا من تجارب حقيقية للسوريين الراحلين عن بلادهم وحياتهم. السوريون الذين يعيشون شبح الحياة في لبنان هنا، حولنا، الذين لا نعرفهم، وقد لا نلتفت إليهم. حين قرأت ما كتبه ياسين الحاج صالح على صفحته مخاطبًا سميرة، الإنسانة المختطفة لدى جماعات إسلامية، لم أستطع تحمل قلقه ولا حزنه وفقده وخذلانه الذي يمثل خذلان هذه الثورة كلها. سميرة هي ثورة السوريين السلمية المختطفة، سميرة هي حبيبة الإنسان السوري الذي أمضى نصف حياته في سجون الطاغية، هي المعادل الحي الوحيد، وهي الحبل السري مع هذه الحياة الحبل الذي انقطع".
وسأل "ملحق الثقافة"، الشاعر فرج بيرقدار رأيه بـ "استضافة" نصوصه في المسرحية وعمّا إن كان ذلك سيضيف لونًا آخر لها، فأجاب: "لا أحب التحدث عن نفسي ولا عن كتاباتي، ولكني لم أتخيل حين كتبت النصوص أنها ستصبح رواية كل سوري، أفرح وأفخر بأن نصوصنا قد تصل للآخرين أو للضفة الثانية وأشكر المخرجة الإنسانة لينا أبيض، لكن للأسف لم نعد قادرين على تخيل أي لون جديد".
عزلة الجرح السوري
لا تتردد لينا في الموافقة على جعل "العزلة" عنصرًا أو بطلًا في المسرحية، فالسوريون المتروكون، إخوة للعزلة: "نعم العزلة هي بطلة في هذا العرض القاتل، وهي تتجلّى بدويّ مؤلم في السجن وفي المنفى وفي الخطف. وتتجلى أيضًا في ليالي أشخاص خُيّروا بين الموت والحياة واختاروا الحياة بأي ثمن. وكان ثمنًا ثقيلًا".
وبسبب النقاش الدائر باستمرار حول "جودة" الأعمال والكتابات التي يقدّمها السوريون، في ظلّ استمرار الوجود داخل النار، وتحت سطوة موت لم يزل يقوم بكافة "واجباته" تجاه السوريين، كان لا بدّ من التطرق إلى هذه النقطة، فردّت أبيض: "أعتقد أن خمس سنوات هي مدة كافية جدًا لإنضاج ما يمكن كتابته أو تقديمه عن الجرح السوري. يجب أن نقدم ما يصل إلى قامة الموت والتحدي التي عرّفنا إليها السوريون".
ويبدو أن هذا العمل لاقى صدى لا في نفوس السوريين وحدهم، بل اللبنانيين، إذ لا تتردد المخرجة بالإشارة إلى ما لا يمكن أن تنساه من رد فعل أحد أبناء جلدتها: "ما لا أنساه هو وجه لبناني يخرج ويقول لي هل سيسامحنا السوريون يومًا؟. كان يجب أن نعرف أنهم مثلنا وأكثر. لقد خرب هذا النظام بلادهم وحياتهم. أريد أن أضمهم الآن جميعًا، وأستغفرهم".
التقى "ملحق الثقافة" بالمخرجة، وسألها بدايةً عن عنوان عملها فأجابت: "هو نوم الميت كما وصفته الروائية سمر يزبك في كتابها "تقاطع نيران"، وهو نوم السوريين منذ خمسين عامًا حين كانوا ينامون بعيون مفتوحة بسبب الرعب من الأجهزة المخابراتية السورية الذي لا يوصف، وهو نومهم الآن حين يخافون على ما بقي من يقظتهم من الموت".
ويبدو أن "أدب السجون السوري"، قد ولّد لدى أبيض اهتمامًا كبيرًا، خاصّة وأنه في جلّه نابع من شهادات وتجارب معيشة :"دخلت عالم سجون الرأي السورية الساكن في روايات السوريين وفي أشعارهم وقصصهم، لقد دخلته مع مصطفى خليفة حين قرأت "قوقعته" وسجنني بداخلها طويلًا. وحين كنت أذهب لدمشق للمشاركة بمهرجانات مسرحية ولألتقي بهم وأسمعهم. وعرفته أيضًا حين رجعت إلى لبنان بعد خمسة عشر عامًا تملؤني رغبة هائلة لزيارة قبر أبي الذي مات وأنا في فرنسا. في الطريق إلى المقبرة لم أشاهد الحاجز السوري، لأن روحي كانت تسبقني إلى قبر أبي، لكن الضابط السوري حينها أوقفني، ولم يصدق تبريري، وعقابًا لي، لأني لم أنتبه، حكم علي بالوقوف خارج سيارتي في شمس الصيف الوقحة ساعة كاملة. في هذه الساعة أحسست فعلًا باليتم، وفهمت تمامًا ماذا يعني أن أكون يتيمة الأب والوطن".
موضوع اليتم، حاضرٌ في المسرحية، كمشهد خلفي وفقًا لما تقول لينا: "نعم أعتقد أنه كان دائمًا الخلفية لكل المشهد، تطل برأسها في روح ووجع وحتى في تناقض شخصياتي".
الشاعر والكاتب
واستعانت لينا كذلك بأصوات السوريين الذين قرأت لهم: لماذا إذن صوت فرج بيرقدار وصوت ياسين الحاج صالح، الصوتان اللذان يشدان القلب من شعره؟ لماذا هما الصوتان اللذان يتكلمان ويتحركان بخفة ليس فقط من خلال قراءة بعض من النصوص وإنما هما يتحركان في عيون ونبرة كل أشخاص المسرحية؟". وتضيف عن تأثير تلك الكتابات في نفسها قائلة: "حين قرأت فرج بيرقدار في نصوص تغريبتي في سجون المخابرات السورية، أصابتني حالة غريبة جدًا لم تصبني أبدًا من قبل. أدخلتني فيها، لأصبح ساكنة بين جمل فرج الصادقة والرشيقة والبعيدة عن الزخرف والابتذال، بين تجربة موجعة حتى الرغبة في الموت، تجربة تتكرر الآن في كلّ ما يعيشه السوري منذ خمس سنوات. هذا الدخول لعالم فرج، دفعني لشعور آخر، إذ وجدت نفسي لا أستطيع البتة متابعة حياتي من دون أن أقدم شيئًا معادلًا لتلك الزلازل التي أثارها النص في روحي. لم يكن ممكنًا أن أبقى صامتة ولو لساعة واحدة بعد كل ما أشاهده وما أعيشه هنا من تجارب حقيقية للسوريين الراحلين عن بلادهم وحياتهم. السوريون الذين يعيشون شبح الحياة في لبنان هنا، حولنا، الذين لا نعرفهم، وقد لا نلتفت إليهم. حين قرأت ما كتبه ياسين الحاج صالح على صفحته مخاطبًا سميرة، الإنسانة المختطفة لدى جماعات إسلامية، لم أستطع تحمل قلقه ولا حزنه وفقده وخذلانه الذي يمثل خذلان هذه الثورة كلها. سميرة هي ثورة السوريين السلمية المختطفة، سميرة هي حبيبة الإنسان السوري الذي أمضى نصف حياته في سجون الطاغية، هي المعادل الحي الوحيد، وهي الحبل السري مع هذه الحياة الحبل الذي انقطع".
وسأل "ملحق الثقافة"، الشاعر فرج بيرقدار رأيه بـ "استضافة" نصوصه في المسرحية وعمّا إن كان ذلك سيضيف لونًا آخر لها، فأجاب: "لا أحب التحدث عن نفسي ولا عن كتاباتي، ولكني لم أتخيل حين كتبت النصوص أنها ستصبح رواية كل سوري، أفرح وأفخر بأن نصوصنا قد تصل للآخرين أو للضفة الثانية وأشكر المخرجة الإنسانة لينا أبيض، لكن للأسف لم نعد قادرين على تخيل أي لون جديد".
عزلة الجرح السوري
لا تتردد لينا في الموافقة على جعل "العزلة" عنصرًا أو بطلًا في المسرحية، فالسوريون المتروكون، إخوة للعزلة: "نعم العزلة هي بطلة في هذا العرض القاتل، وهي تتجلّى بدويّ مؤلم في السجن وفي المنفى وفي الخطف. وتتجلى أيضًا في ليالي أشخاص خُيّروا بين الموت والحياة واختاروا الحياة بأي ثمن. وكان ثمنًا ثقيلًا".
وبسبب النقاش الدائر باستمرار حول "جودة" الأعمال والكتابات التي يقدّمها السوريون، في ظلّ استمرار الوجود داخل النار، وتحت سطوة موت لم يزل يقوم بكافة "واجباته" تجاه السوريين، كان لا بدّ من التطرق إلى هذه النقطة، فردّت أبيض: "أعتقد أن خمس سنوات هي مدة كافية جدًا لإنضاج ما يمكن كتابته أو تقديمه عن الجرح السوري. يجب أن نقدم ما يصل إلى قامة الموت والتحدي التي عرّفنا إليها السوريون".
ويبدو أن هذا العمل لاقى صدى لا في نفوس السوريين وحدهم، بل اللبنانيين، إذ لا تتردد المخرجة بالإشارة إلى ما لا يمكن أن تنساه من رد فعل أحد أبناء جلدتها: "ما لا أنساه هو وجه لبناني يخرج ويقول لي هل سيسامحنا السوريون يومًا؟. كان يجب أن نعرف أنهم مثلنا وأكثر. لقد خرب هذا النظام بلادهم وحياتهم. أريد أن أضمهم الآن جميعًا، وأستغفرهم".