مأزق القضية الفلسطينية وفرصها
دخلت مباحثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين مرحلة عبثية، لا يُفهم ما المرام منها، ولماذا العناء لإعادة إحيائها. فالمفهوم الإسرائيلي للحل بات واضحاً: "إما أن تقبلوا شروطنا أو لا سلام". هذا الموقف تلخصه تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه يعالون الهازئة حول عدم ممانعته قيام "إمبراطورية فلسطينية"، لكن، وفقاً للشروط التي تمليها إسرائيل.
ففي سياق رده على سؤال حول إذا ما كان يؤمن بإمكانية قيام دولة فلسطينية، قال يعالون: "هذا ممكن، ويمكنكم تسميتها الإمبراطورية الفلسطينية الجديدة إن شئتم... لكنها لن تكون كغيرها من الدول"، وأردف "ستكون منزوعة السلاح. عليهم أن يوافقوا على ذلك، وإلا لن تكون هناك مفاوضات".
وبانتظار إعلان وفاة عملية السلام في إطارها الحالي، علينا، كعرب، إعادة تقييم تجربة المفاوضات منذ توقيع اتفاقية أوسلو، فالمشكلات والأخطاء تراكمت، والتعنت الإسرائيلي ازداد، وما زلنا ندور في حلقة مفرغة. في طليعة تلك المشكلات، تبنى مفاهيم مغلوطة في سياق عملية السلام وتداولها من العرب والإسرائيليين.
أولاً، من الخطأ تسمية إسرائيل قوة احتلال فقط. فوفقاً للاتفاقيات الدولية، وفي مقدمتها اتفاقية جنيف الرابعة، لا يمكن للمحتل أن يغيّر جغرافياً وديموغرافياً الأراضي التي يحتلها. لكن، ما تفعله إسرائيل عكس ذلك تماماً، إذ إنها تستولي على الأراضي الفلسطينية من دون حسيب أو رقيب. وها هي تقضم القدس الشرقية وتهوّدها، وتقطّع أوصال الضفة الغربية، من خلال بناء المستوطنات، ما يجعل من شبه المستحيل إقامة دولة فلسطينية فيها. وبذلك، هي كانت وما زالت قوة اقتلاع وليس فقط احتلال.
كما لا تعترف إسرائيل بحق الفلسطينيين في العيش على أرضهم المحتلة، فالزعماء الإسرائيليون يعتبرون السكان العرب، ومن ضمنهم عرب الداخل، "متطفلين" و"دخلاء". وبهذا أصبح قيام دولة فلسطينية يشكل بالنسبة لإسرائيل تنازلاً، على العرب أن يشعروا بالامتنان لمثل هذا الكرم. كيف لا وإسرائيل تعتبر فلسطين ملكاً لها، بناء على حق تاريخي وديني مزعوم.
إذن، ومن أجل تقويم مسار ما تسمى عملية السلام، لا بد من إسقاط القناع عن إسرائيل، وتسميتها بما هي عليه: دولة غازية، استعمارية، مغتصبة للحقوق الفلسطينية.
ثانياً، إن الاجتماعات واللقاءات التي بين الفلسطينيين والإسرائيليين ليست "مفاوضات"، بل مجرد "مباحثات" أشبه بحوار الصم، فالمفاوضات تضبط قواعد مسيرة نحو هدف متفقٍ عليه ضمنياً، ويتم، من خلالها، الاتفاق على آليات التطبيق. لكن، في المقابل، المباحثات لا نهاية لها، وهي أشبه بـ"دردشة" بين طرفين، كل منهما ينظر إلى الحل بشكل مختلف. وما يؤكد عدم جدوى تلك المباحثات هو التعنت الإسرائيلي، ورغبته بإملاء شروطه على الطرف الآخر. فإسرائيل لا ترغب في تحقيق حل عادل وشامل، بل تسعى، من خلال السلام، إلى تكريس هيمنتها على المنطقة. وكما يؤكد يعالون: "المفاوضات تتعلق بوجود دولة إسرائيل، وليس قيام دولة فلسطينية."
ثالثاً، القول إن قطاع غزة غير مُحتل خاطئ أيضاً. فبعد انسحاب إسرائيل منه، وفوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية، أعلنت الحكومة الإسرائيلية غزة كياناً معادياً، وبدأت باستباحته. حينها حاصرته من كل حدب وصوب، وارتكبت، وما زالت ترتكب، مجازر بحق أبنائه وبناته. وهنا علينا، كعرب، التصويب بالقول إن قطاع غزة سجن إسرائيلي كبير، ولذا يقاوم أبناؤه بالسلاح.إلى جانب الحاجة لضبط المصطلحات، هناك مشكلة أخرى، تتعلق بالأطراف المعنية بالمباحثات، منها مشكلات بنيوية وأخرى وظيفية.
إسرائيلياً، لا يوجد أي رغبة في السلام. فالانتخابات الأخيرة أسفرت عن فوز التيارات اليمينية المتشددة، المناهضة لأي حل عادل وشامل، يضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
فلسطينياً، يوجد التباس فظيع إزاء الجهة المخوّلة بالتفاوض. فلدينا، اليوم، حكومة وحدة وطنية تضم حركتي فتح وحماس، برئاسة رامي الحمد الله. هذه الخطوة الإيجابية، وإن جاءت متأخرة، من شأنها توحيد الصوت الفلسطيني في عملية السلام، وإقفال الباب أمام أي محاولة إسرائيلية لاستغلال الثغرات في صف الفلسطينيين. لكن، الالتباس الذي يحتاج إلى التوضيح هو الجهة المسؤولة عن تنظيم المفاوضات. هل هي السلطة الفلسطينية أو حكومة الوحدة؟ ما هي صلاحيات السلطة الوطنية وصلاحيات الحكومة؟ وكيف سيتم التنسيق بينهما؟
في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تستغل تلك الثغرة، تجنباً للحوار مع أي جهةٍ، تضم ممثلين عن حركة حماس. وهي تدعو، على لسان وزير خارجيتها، جون كيري، إلى استكمال المفاوضات مع "السلطة الوطنية"، من دون أي إشارة للحكومة الفلسطينية.
أما أميركياً، فقد فشلت إدارة الرئيس باراك أوباما في لعب دورها وسيطاً جدياً. فبعد أكثر من عشر زيارات إلى المنطقة، لم يستطع كيري كسر تعنت الإسرائيليين، أو حتى إقناعهم بوضع إطار لاستكمال عملية السلام. كما أظهرت الإدارة الأميركية أنها لا تملك أي أداة لثني إسرائيل وحملها على تغيير موقفها، وذلك بسبب انصياع الكونغرس الأميركي التام لمجموعات الضغط الإسرائيلية كالإيباك.
بل وأكثر من ذلك. باتت، اليوم، إسرائيل، وبتعجرفها الصارخ، تحدد ما ينبغي أن يكون الموقف الأميركي. فرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، لم يجد أي حرج بالرد على انتقادات الإدارة الأميركية لقرار بناء مستوطنات جديدة بالقول: "هذا الموقف غير أميركي"!!
أما الخطأ، بل الخطيئة الثالثة، وهي الأعقد والأخطر، حال التشتت والتشرذم العربي الذي أدى إلى فقدان المناعة في مواجهة الجبروت الإسرائيلي. ولعل اتفاقية كامب ديفيد أحد أهم أسباب تلاشي القدرة العربية على التصدي لإسرائيل، لا سيما وأن مصر مركز ثقل أساسي في عالمنا العربي، وهي نقطة التلاقي بين المغرب والمشرق العربي. ولقد تضاءل دور مصر في التأثير على مسار عملية السلام، وبدأت، بعد توقيع الاتفاقية، تفقد التزامها بالقضية الفلسطينية. بل وأبعد من ذلك، باتت مصر تقلل من خطورة الهيمنة الإسرائيلية على فلسطين، وتعطيها مسوغات ومبرراتٍ، تحت عناوين عريضة فضفاضة، كضرب التطرف الإسلامي.
بل صارت إسرائيل محامي الدفاع عن النظام المصري لدى واشنطن. فهي عاتبة على الأخيرة، لأنها لا تتفهم الدواعي الأمنية المصرية، وما يجب أن يرتبه ذلك من دعم للوضع المصري القائم.
كما وأننا نجد، اليوم، ضعفاً عربياً في المطالبة بكامل الحقوق الفلسطينية، بذريعة "الواقعية السياسية". ولقد أمسى القول إن علينا مراعاة موازين القوى والوقائع على الأرض، حجة لتقديم التنازل تلو الآخر. فعلى الرغم من ظروف الواقع العربي الراهن، لا بد من إعادة تصويب البوصلة العربية إلى القضية التي تحظى بدعم جماهيري عربي واسع، وهي قضية فلسطين.
ولدينا اليوم فرصة سانحة لجهة التأييد العالمي الذي تحظى به هذه القضية، ما سيعطي زخماً لتحقيق المطالب المشروعة. فخيار السويد وبريطانيا الاعتراف بدولة فلسطين، وإن كان رمزياً، دليل قاطع على تغيّر الرأي العام العالمي إزاء حقوق الفلسطينيين.
ثم إن هناك حالةً من الاشتباك الكلامي، غير المسبوق في حدته وتعبيراته وعلنيته، بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو. فالتوتر ضرب أطنابه، في الأيام الأخيرة، بين الجانبين، وبدرجة تسمح بالقول إن العلاقة بين نتنياهو والبيت الأبيض باتت معطوبة، وبما يتعدّى إعادتها إلى سابق عهدها. في الماضي، كانت تحصل احتكاكات ومصادمات، مثل التي حصلت بين بوش الأب وشامير بسبب ضمانة القرض، لكنها كانت عابرة.
وبكل حال، ما مرّة وصلت في لغة التراشق التي شهدتها الجولة الراهنة، والتي بدأت مع التطاول المتعجرف الذي صدر عن الوزير يعالون بحق الوزير كيري. لكن، هذه المرّة ردّت الإدارة، وبعثت رسالة قوية، عندما رفض كيري، ونائب الرئيس بايدن، استقبال يعالون في زيارته واشنطن الأسبوع الماضي. ثم كرّت سبحة الرد، فأعلنت إسرائيل عن مشروع استيطاني جديد، ما حمل مسؤولاً أميركياً على نعت نتنياهو بأوصاف دونية غير مألوفة، نقلتها مجلة "أتلانتيك". ما أثار أنصار إسرائيل التي استنفرت قواها وهيئاتها للرد على الإدارة، وبصورة تشير إلى أن حالة الجفاء بينهم بلغت أقصاها. طبعاً لا وهم بأن ذلك لا يتعدى عملية احتقان شخصي، تفجرت بشكل غير متوقع. لكنها، بكل حال، أسست لفقدان الثقة، وبما يمكن البناء عليه، وليس بالضرورة المراهنة عليه.
إذن، وفي ضوء هذا الواقع المتغير، لا بد لنا، اليوم، أن نقف لنسأل أنفسنا: هل ندع باقي العالم يسبقنا في دعم فلسطين، أم أنه ينبغي المبادرة للاستدراك وجمع الصف، لوضع هذه القضية العربية المركزية مجدداً نصب أعيننا؟ أقول، فلنغتنم هذه الفرصة، ونجعل من فلسطين باكورة القضايا التي سنلتف عليها كعرب، من أجل تحقيق وحدتنا التي لطالما صبونا إليها.