إن رغب موسيقيٌّ آتٍ من الشرق العربي والإسلامي، مؤلفاً كان أو مؤديّاً أو كليهما، بالولوج السريع داخل سوق السمعيّات الأوروبية، من إقامة حفلات وعقود تسجيلات أو الحلول ضيفاً لمرّة أو مرتين، على المهرجانات الشتوية والصيفية، فإنّ آلةً دون غيرها تفتح له بابَ الأذن الغربية، ألا وهي الطبلة.
ذلك ليس قدر الموسيقي العربي وحده، وإنما سائر الشعوب الأخرى التي رزحت تحت الكولونيالية، حيث الإيقاع العاري ــ والمقصود هنا المنظوم بوساطة آلات الطبل والقرع والنقر ــ مُفردةٌ أساسٌ ومكوُّنٌ جوهريٌ لأي فرقة موسيقية تُقدّم لوناً محلياً قادماً من الهند أو أفريقيا، وحتى أميركا السوداء شمالية كانت أو جنوبية. الطبلة هي رافعةُ الهوية، وأشبه بجُبنة البارمزان على كل طبق باستا إيطالية.
تلك الطبول بأشكالها آلاتٌ أصليّة وأصيلة في مُجتمعاتها، لعبت وتلعب أدواراً هامة. وفي بعض الثقافات محوريّة في البيئة والثقافة السمعية لدى تلك الشعوب. فالطبلة الهندية مصنوعة من النشاء والجلد وخليط أخشاب الساج والورد، تدبّ في فن موسيقى الراغا نبضها الكوني. أما الطبل الأفريقي فله أدوار تتجاوز الفني منها إلى السحري والروحي.
ما يميّز الموسيقى العربية هنا، هو أن لها مستويات حضارية متداخلة أحياناً، وأحياناً متمايزة ومنفصلة، من ناحية حضور الإيقاع الظاهر والمتجسّد في الفرقة أو التخت بمُفردات آلاته. منها ما ينْظُم إيقاع النغم كالمزهر والتار، ومنها ما يُزخرفه كالرق والدف. تلك المستويات تعود إلى الفروق النوعية بين ما قد يُصطلح على تسميته من منظور سوسيولوجي موسيقى البلاط، مقابل ألوان موسيقى الفولكلور.
بمقتضى كلٍّ من التجاور التأريخي والجيوثقافي، تُشكّل نماذج العصور الوسطى لموسيقى البلاط الإسلامي، سواءٌ في بغداد أو الأندلس ثم القسطنطينية في العهد العُثماني المُبكّر، إحدى النوى الأولى لما يُعرف اليوم بالموسيقى الكلاسيكية الغربية والتي أسست للذائقة السمعية عند المجتمع الغربي. حتى إن المحاولات النظرية الأولى للهرمنة جمعاً عمودياً للألحان، سُبرَت بأعواد وقوانين عربية.
المُلاحظ في موسيقى البلاط، أو التخت الشرقي، هو تطوّر المقاربة الجمالية لدور آلة الإيقاع فيه، فتتراجع إلى خلف اللحن والمغنى، تشدّه وتضبطه، فيما هُندست الزخارف الإيقاعية بترشيد واقتصاد، لم يعد الإيقاع حقلاً مُقتصراً على الإثارة الحسيّة، وإنما صار عمود اللحن وناموسه. تباعدت كل من ضربة الدُمّ/ القرار والتك/ الجواب، لتفسح المجال أمام عمارة ما سيعرف لاحقاً بالجملة الموسيقية.
اقــرأ أيضاً
سيرورة العبور تلك، من الإثارة الحسيّة نحو العمارة الفكرية في التأليف الموسيقي، أنتجت القوالب الموسيقية المُحكمة بناءً، كأصول الموشّح والسماعي. وصُممت على أوزانها رقصات أبرزت التعبيري على حساب الحسي والغريزي، الإيقاع فيها وظيفته التنظيم لا التسخين.
في الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وعلى الأخص منذ زمن عصر التنوير وتسيُّد النزعة العقلانية، لم يعد الضرب على الآلات الإيقاعية من شروط التجربة الموسيقية. هذا لا يعني أن الموسيقى الغربية لا إيقاع لها؛ جلّ قوالب المدرسة الكلاسيكية مُستمدّة من رقصات شعبية قروسطية، بيد أن الإيقاع فيها قد تحول من الظاهر إلى الباطن والمستتر، ومن الغالب إلى المُحتجب.
تمايَز الإيقاع كمفهوم عن الإيقاع كآلة، وصارت له وسائل غير مرئية وغير الطبول وسواها. كُتبت الجمل الإيقاعية للآلات الوترية أو الهوائية، تبادلت في ما بينها الأدوار الإيقاعية: الدُمّ من نصيب الآلة ذات الصوت الجهير، فيما أُسند التكّ للآلات ذات الأصوات الحادّة والرفيعة. دخل الإيقاع في البنية اللحنية والهارمونية للجمل الموسيقية، واستمرت صنوف الطبول عناصرَ تعبيرية في الحبْك الدرامي.
ضمن هذا المجال الصوتي، تُميِّز الأذن المعاصرة بين الموسيقى كمُنتج فكري وآخرَ حسّي. اللهم ما قد ينجح بجمع كليهما كما في أشكال مُتقدمة واستثنائية من الجاز والموسيقى الجديدة، حيّةً كانت أو إلكترونية. بيد أن هذا التمييز باتت تحكمه تصنيفات وتنميطات هويّاتية سياسية وحضارية، تودّ أن تسمع كل ما هو فكري على أنه غربي البيئة والمنشأ، وجلّ ما هو حسّي على أنه شرقي واستوائي.
هنا لا يدخل الإيقاع على المنتج الموسيقي بوصفه آلة موسيقية فقط، وإنما آلة ثقافية تُحفّز في الأذن الغربية تلك الصورة المُلتصقة عن الشرق، بأنه إما غابة استوائية وإما صحراء عجائبية. بين سُعف نخيلها ومضاجع خيمها وحول أجيج نارها تدور حلقات الرقص والمُجون. ذات المخيال الاستشراقي الذي يجعل من ألف ليلة وليلة، مرجعيّة كل عمل أدبيّ بقلم كل كاتب مشرقي أو من أصول عربية.
ذات التنميطات السمعية تفرض على موّلفي القارّة السوداء أو الغربيين من أصول أفريقية، كتابة الموسيقى لفرقٍ جلّها من الطبول. جلسات الراغا الهندية بطبيعتها الدينية، راجت في السبعينيات كروافد موسيقية لفترة ما بعد الكولونيالية التي شهدت انفتاحاً على موسيقات الشعوب، فاستقبلت في الغرب لنبضها الإيقاعي المُحاكي لموسيقى الروك.
هكذا تلاحق علامة الطبلة والدربكّة التجارية، كل موسيقي قادم من الشرق الإسلامي والعالم العربي. السوق الغربية تغويه، من دون أن تفرض عليه بالضرورة، أن ينخرط في تقديم أطباق موسيقية تُداعب التنميطات الاستشراقية السائدة لدى المُستمع الأوروبي والمُتحكمة بالذائقة الثقافية التي بين أذنيه، تراه يطهو لهم على نار طبول، تنبعث منها أصواتٌ تهيج لها الأجساد وتثور بها الشهوات.
مقابل الاستشراق هناك الاستغراب بتجليّاته؛ الأول يكمن في تبنّي الشرقي التنميط في الوعي الجمعي الغربي، ثم التماهي به فلا يعود يرى أيّ موسيقى يُحاكي بها أصله وموروثه إلا من باب استمالة الغربي إلى الرقص. الثاني؛ رفض الموسيقى الغربية والكلاسيكية على الأخص - دون الجاز والبوب - لكونها باردة، ميّتة وكئيبة، لمجرّد أنها لا تُثير العواطف إلا بدءاً باستثارة الأفكار.
ذلك ليس قدر الموسيقي العربي وحده، وإنما سائر الشعوب الأخرى التي رزحت تحت الكولونيالية، حيث الإيقاع العاري ــ والمقصود هنا المنظوم بوساطة آلات الطبل والقرع والنقر ــ مُفردةٌ أساسٌ ومكوُّنٌ جوهريٌ لأي فرقة موسيقية تُقدّم لوناً محلياً قادماً من الهند أو أفريقيا، وحتى أميركا السوداء شمالية كانت أو جنوبية. الطبلة هي رافعةُ الهوية، وأشبه بجُبنة البارمزان على كل طبق باستا إيطالية.
تلك الطبول بأشكالها آلاتٌ أصليّة وأصيلة في مُجتمعاتها، لعبت وتلعب أدواراً هامة. وفي بعض الثقافات محوريّة في البيئة والثقافة السمعية لدى تلك الشعوب. فالطبلة الهندية مصنوعة من النشاء والجلد وخليط أخشاب الساج والورد، تدبّ في فن موسيقى الراغا نبضها الكوني. أما الطبل الأفريقي فله أدوار تتجاوز الفني منها إلى السحري والروحي.
ما يميّز الموسيقى العربية هنا، هو أن لها مستويات حضارية متداخلة أحياناً، وأحياناً متمايزة ومنفصلة، من ناحية حضور الإيقاع الظاهر والمتجسّد في الفرقة أو التخت بمُفردات آلاته. منها ما ينْظُم إيقاع النغم كالمزهر والتار، ومنها ما يُزخرفه كالرق والدف. تلك المستويات تعود إلى الفروق النوعية بين ما قد يُصطلح على تسميته من منظور سوسيولوجي موسيقى البلاط، مقابل ألوان موسيقى الفولكلور.
بمقتضى كلٍّ من التجاور التأريخي والجيوثقافي، تُشكّل نماذج العصور الوسطى لموسيقى البلاط الإسلامي، سواءٌ في بغداد أو الأندلس ثم القسطنطينية في العهد العُثماني المُبكّر، إحدى النوى الأولى لما يُعرف اليوم بالموسيقى الكلاسيكية الغربية والتي أسست للذائقة السمعية عند المجتمع الغربي. حتى إن المحاولات النظرية الأولى للهرمنة جمعاً عمودياً للألحان، سُبرَت بأعواد وقوانين عربية.
المُلاحظ في موسيقى البلاط، أو التخت الشرقي، هو تطوّر المقاربة الجمالية لدور آلة الإيقاع فيه، فتتراجع إلى خلف اللحن والمغنى، تشدّه وتضبطه، فيما هُندست الزخارف الإيقاعية بترشيد واقتصاد، لم يعد الإيقاع حقلاً مُقتصراً على الإثارة الحسيّة، وإنما صار عمود اللحن وناموسه. تباعدت كل من ضربة الدُمّ/ القرار والتك/ الجواب، لتفسح المجال أمام عمارة ما سيعرف لاحقاً بالجملة الموسيقية.
سيرورة العبور تلك، من الإثارة الحسيّة نحو العمارة الفكرية في التأليف الموسيقي، أنتجت القوالب الموسيقية المُحكمة بناءً، كأصول الموشّح والسماعي. وصُممت على أوزانها رقصات أبرزت التعبيري على حساب الحسي والغريزي، الإيقاع فيها وظيفته التنظيم لا التسخين.
في الموسيقى الكلاسيكية الغربية، وعلى الأخص منذ زمن عصر التنوير وتسيُّد النزعة العقلانية، لم يعد الضرب على الآلات الإيقاعية من شروط التجربة الموسيقية. هذا لا يعني أن الموسيقى الغربية لا إيقاع لها؛ جلّ قوالب المدرسة الكلاسيكية مُستمدّة من رقصات شعبية قروسطية، بيد أن الإيقاع فيها قد تحول من الظاهر إلى الباطن والمستتر، ومن الغالب إلى المُحتجب.
تمايَز الإيقاع كمفهوم عن الإيقاع كآلة، وصارت له وسائل غير مرئية وغير الطبول وسواها. كُتبت الجمل الإيقاعية للآلات الوترية أو الهوائية، تبادلت في ما بينها الأدوار الإيقاعية: الدُمّ من نصيب الآلة ذات الصوت الجهير، فيما أُسند التكّ للآلات ذات الأصوات الحادّة والرفيعة. دخل الإيقاع في البنية اللحنية والهارمونية للجمل الموسيقية، واستمرت صنوف الطبول عناصرَ تعبيرية في الحبْك الدرامي.
ضمن هذا المجال الصوتي، تُميِّز الأذن المعاصرة بين الموسيقى كمُنتج فكري وآخرَ حسّي. اللهم ما قد ينجح بجمع كليهما كما في أشكال مُتقدمة واستثنائية من الجاز والموسيقى الجديدة، حيّةً كانت أو إلكترونية. بيد أن هذا التمييز باتت تحكمه تصنيفات وتنميطات هويّاتية سياسية وحضارية، تودّ أن تسمع كل ما هو فكري على أنه غربي البيئة والمنشأ، وجلّ ما هو حسّي على أنه شرقي واستوائي.
هنا لا يدخل الإيقاع على المنتج الموسيقي بوصفه آلة موسيقية فقط، وإنما آلة ثقافية تُحفّز في الأذن الغربية تلك الصورة المُلتصقة عن الشرق، بأنه إما غابة استوائية وإما صحراء عجائبية. بين سُعف نخيلها ومضاجع خيمها وحول أجيج نارها تدور حلقات الرقص والمُجون. ذات المخيال الاستشراقي الذي يجعل من ألف ليلة وليلة، مرجعيّة كل عمل أدبيّ بقلم كل كاتب مشرقي أو من أصول عربية.
ذات التنميطات السمعية تفرض على موّلفي القارّة السوداء أو الغربيين من أصول أفريقية، كتابة الموسيقى لفرقٍ جلّها من الطبول. جلسات الراغا الهندية بطبيعتها الدينية، راجت في السبعينيات كروافد موسيقية لفترة ما بعد الكولونيالية التي شهدت انفتاحاً على موسيقات الشعوب، فاستقبلت في الغرب لنبضها الإيقاعي المُحاكي لموسيقى الروك.
هكذا تلاحق علامة الطبلة والدربكّة التجارية، كل موسيقي قادم من الشرق الإسلامي والعالم العربي. السوق الغربية تغويه، من دون أن تفرض عليه بالضرورة، أن ينخرط في تقديم أطباق موسيقية تُداعب التنميطات الاستشراقية السائدة لدى المُستمع الأوروبي والمُتحكمة بالذائقة الثقافية التي بين أذنيه، تراه يطهو لهم على نار طبول، تنبعث منها أصواتٌ تهيج لها الأجساد وتثور بها الشهوات.
مقابل الاستشراق هناك الاستغراب بتجليّاته؛ الأول يكمن في تبنّي الشرقي التنميط في الوعي الجمعي الغربي، ثم التماهي به فلا يعود يرى أيّ موسيقى يُحاكي بها أصله وموروثه إلا من باب استمالة الغربي إلى الرقص. الثاني؛ رفض الموسيقى الغربية والكلاسيكية على الأخص - دون الجاز والبوب - لكونها باردة، ميّتة وكئيبة، لمجرّد أنها لا تُثير العواطف إلا بدءاً باستثارة الأفكار.