05 نوفمبر 2024
ماريان التي بات لها وجهُ ميلا
أصبحت ماريان رمز الجمهورية في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، في العام 1792، وقد اختيرت امرأةً لأن الثورة مؤنّثة، وسُمّيت ماريان لأن اسمي ماري وآن على ما قيل، كانا الأكثر شيوعا آنذاك. وملامح ماريان التي تُنحت وتُرسم وتُطبع صورتها على المعاملات الرسمية، تتغيّر من حين إلى حين، إلا أنّ القيم التي ترمز إليها تبقى ثابتةً أبدا، لأنها قيم الجمهورية والشعب الفرنسي: "حرّية، مساواة، أخوّة".
اليوم، يتبدّل وجهُ ماريان للأسف. بل حتى أنّ من عرفها، طوال سنوات الجمهوريات الخمس المتعاقبة، سيجد صعوبةً في التعرّف إليها، وقد اختلطت ملامحُها بملامح من ينادون ويدافعون عن عكس قيمها، من أمثال المراهقة ميلا، ابنة الستة عشر ربيعا التي استولت عليها السياسةُ ووسائلُ الإعلام، واضعةً في فيها المستفّز الأرعن كلامًا ومواقف دفعت بغلطةٍ ارتكبتها، من دون أن تقدّر عاقبتها، إلى تصدّرِ الفضاء العام.
في 17 يناير/ كانون الثاني 2020، خلال حوار مباشر على إنستغرام مع إحدى متابعاتها، أفصحت ميلا عن مثليتها الجنسية، وعن عدم ميلها إلى بنات الجالية المغاربية، أو صاحبات البشرة السوداء، فهاجمها أحدُ معجبيها متّهما إياها بالعنصرية، وشتمها وسبّ مثليّتها، فما كان منها إلا أن وضعت فيديو على "الستوري" الخاصة بها، حيث شتمت الدين الإسلامي بعباراتٍ بذيئةٍ ونابية. انتشر الفيديو بسرعة قصوى، كما تنتشر النار في الهشيم، وتلقّت الفتاة من بعدها آلاف الشتائم والتهديدات بالقتل والسحل والحرق بالأسيد.. والقصة التي تُروى ههنا اختصارا، لتلخيص ما جرى، لا تكتسي أهمّيتها إلا من خلال فضحها المستور، وقول ما لا يقال أو ما يمتنع عن القول، وهو ما كان وراء تضخّم هذه الحادثة كما تتضخّم كرة ثلج لتبلغ حجم البلاد، مستدعيةً الانقسامات بين مؤيدٍ وشاجب، مع وضد.
يعيش المجتمعُ الفرنسيّ مشكلةً كبيرة، وتتعلّق بقبوله مُسلميه الذين يبلغ عددهم نحو خمسة ملايين، فكلّما وقعت أدنى حادثة، ارتفع الغطاء عن محتوى الوعاء، وانتشرت رائحةُ حال الضيق التي يعيشها الطرفان من جرّاء عجزهما عن فقء الدمّلة التي تقيّح عيشَهما. فمرّة تكون المشكلة حجابا، ومرة بوركيني، ومرة كثرة الإنجاب، فيما الكُرهُ يتعاظم والخوفُ من الإسلام السياسي وإرهابه يشتدّ ويتزايد. أجل، لقد دفعت فرنسا ثمنا غاليا، اغتيالات وتفجيرات وقتلى أبرياء، كما دفعت الجاليةُ المسلمة ثمنَ ذنبٍ لم ترتكبه، وليست بأية حال مسؤولة عنه، احتقارا وإقصاء وتمييزا يوميا.
ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن الدولة الفرنسية، وعبر حكوماتها المتعاقبة، لم تُجد التعاملَ مع عمّالها المهاجرين، حين أقْصتهم ورمتهم وعائلاتهم في مساكن الضواحي البعيدة الباردة الحجرية، جيلا إثر جيل. تمامًا مثلما أخطأوا هم حين راحوا يحرنون ضدّ جنسيتهم و"فرنسيتهم"، شاهرين ضدّها الانتماء إلى .. الدين. فبلادُ الأهل والأجداد قصيّة وهم قلّما عرفوها، ولغة الأهل غير محكيّة، وهم قلّما تكلّموها، والدّينُ لدى المهاجرين كفّ عن كونه مجرّد دين أو علاقةٍ روحيةٍ بين الإنسان والله، ليتحوّل إلى هويّةٍ أو بطاقة تعريف تزاحم الهوية الوطنية وتتنافر معها، بدل أن ترفدها وتثريها.
في المقابلة التلفزيونية التي أجرتها ميلا، وضح كيف أن الصحافيَّ كان يضع الكلامَ في فيها، كما سبق للسياسيّين والمثقّفين والإعلاميين أن فعلوا حين سمّوا شتيمتَها المراهقة "حرية انتقاد الدين" و"حق التجديف" اللذيْن يحميهما القانونُ الفرنسيّ ويسمح بهما. وزيرة العدل نفسها، نيكول بيللوبيه، تراجعت بسرعةٍ لأنها "تجرّأت" وشجبت تصرّف المراهقة وتهجّمها على الدّين، قبل أن تعود فتعتذر عن كلماتها تلك. لقد وقّعَ مثقفون كبار بيانا، ورئيسُ الجمهورية نفسه برّأ المراهقة، فكيف لا يشجّعها هذا كلّه على المضيّ، وعلى قولها إنها غير نادمة أبدا على "شتيمتها" الإسلام، وعبره خمسة ملايين فرنسي، مبديةً عجبها من عنف الردّ ومقدار الكراهية التي جوبهت بهما، هي التي لم "تتعدَّ" أو تستفزّ أحدا، وامتلأ كلامها حبّاً وانفتاحاً وتسامحاً.
ميلا المراهقة (ومن خلفها أجيال كاملة من المراهقين وأهاليهم في فرنسا وأوروبا)، التي باتت ترى في عدم الخجل من شتم الآخر والمجاهرة بكراهيتها له، حقًّا وجرأة وبسالة، هي ثمرة سياساتكم وخبثكم وفشلكم في استيعاب الآخر ودمجه. لا بل إنها ضحيّتكم وقنبلتكم الموقوتة التي تنذر بأسوأ انفجار، وقد استغللتم رعونتها وسذاجتها، وعلّمتموها عدم الاعتذار وقلة الأخلاق والانغلاق على الذات.
أمّا أنتم يا جحافل المهدّدين بالقتل والسحل والحرق بالأسيد، فبئسا لكم، واعلموا ألا شيء يبرّر التهديد بقتل إنسان، وأنكم في المحصّلة لأشدّ بذاءة وأكثر إساءة إلى الإسلام وأهله، من كل أولئك الكذبة المتشدّقين.
في 17 يناير/ كانون الثاني 2020، خلال حوار مباشر على إنستغرام مع إحدى متابعاتها، أفصحت ميلا عن مثليتها الجنسية، وعن عدم ميلها إلى بنات الجالية المغاربية، أو صاحبات البشرة السوداء، فهاجمها أحدُ معجبيها متّهما إياها بالعنصرية، وشتمها وسبّ مثليّتها، فما كان منها إلا أن وضعت فيديو على "الستوري" الخاصة بها، حيث شتمت الدين الإسلامي بعباراتٍ بذيئةٍ ونابية. انتشر الفيديو بسرعة قصوى، كما تنتشر النار في الهشيم، وتلقّت الفتاة من بعدها آلاف الشتائم والتهديدات بالقتل والسحل والحرق بالأسيد.. والقصة التي تُروى ههنا اختصارا، لتلخيص ما جرى، لا تكتسي أهمّيتها إلا من خلال فضحها المستور، وقول ما لا يقال أو ما يمتنع عن القول، وهو ما كان وراء تضخّم هذه الحادثة كما تتضخّم كرة ثلج لتبلغ حجم البلاد، مستدعيةً الانقسامات بين مؤيدٍ وشاجب، مع وضد.
يعيش المجتمعُ الفرنسيّ مشكلةً كبيرة، وتتعلّق بقبوله مُسلميه الذين يبلغ عددهم نحو خمسة ملايين، فكلّما وقعت أدنى حادثة، ارتفع الغطاء عن محتوى الوعاء، وانتشرت رائحةُ حال الضيق التي يعيشها الطرفان من جرّاء عجزهما عن فقء الدمّلة التي تقيّح عيشَهما. فمرّة تكون المشكلة حجابا، ومرة بوركيني، ومرة كثرة الإنجاب، فيما الكُرهُ يتعاظم والخوفُ من الإسلام السياسي وإرهابه يشتدّ ويتزايد. أجل، لقد دفعت فرنسا ثمنا غاليا، اغتيالات وتفجيرات وقتلى أبرياء، كما دفعت الجاليةُ المسلمة ثمنَ ذنبٍ لم ترتكبه، وليست بأية حال مسؤولة عنه، احتقارا وإقصاء وتمييزا يوميا.
ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن الدولة الفرنسية، وعبر حكوماتها المتعاقبة، لم تُجد التعاملَ مع عمّالها المهاجرين، حين أقْصتهم ورمتهم وعائلاتهم في مساكن الضواحي البعيدة الباردة الحجرية، جيلا إثر جيل. تمامًا مثلما أخطأوا هم حين راحوا يحرنون ضدّ جنسيتهم و"فرنسيتهم"، شاهرين ضدّها الانتماء إلى .. الدين. فبلادُ الأهل والأجداد قصيّة وهم قلّما عرفوها، ولغة الأهل غير محكيّة، وهم قلّما تكلّموها، والدّينُ لدى المهاجرين كفّ عن كونه مجرّد دين أو علاقةٍ روحيةٍ بين الإنسان والله، ليتحوّل إلى هويّةٍ أو بطاقة تعريف تزاحم الهوية الوطنية وتتنافر معها، بدل أن ترفدها وتثريها.
في المقابلة التلفزيونية التي أجرتها ميلا، وضح كيف أن الصحافيَّ كان يضع الكلامَ في فيها، كما سبق للسياسيّين والمثقّفين والإعلاميين أن فعلوا حين سمّوا شتيمتَها المراهقة "حرية انتقاد الدين" و"حق التجديف" اللذيْن يحميهما القانونُ الفرنسيّ ويسمح بهما. وزيرة العدل نفسها، نيكول بيللوبيه، تراجعت بسرعةٍ لأنها "تجرّأت" وشجبت تصرّف المراهقة وتهجّمها على الدّين، قبل أن تعود فتعتذر عن كلماتها تلك. لقد وقّعَ مثقفون كبار بيانا، ورئيسُ الجمهورية نفسه برّأ المراهقة، فكيف لا يشجّعها هذا كلّه على المضيّ، وعلى قولها إنها غير نادمة أبدا على "شتيمتها" الإسلام، وعبره خمسة ملايين فرنسي، مبديةً عجبها من عنف الردّ ومقدار الكراهية التي جوبهت بهما، هي التي لم "تتعدَّ" أو تستفزّ أحدا، وامتلأ كلامها حبّاً وانفتاحاً وتسامحاً.
ميلا المراهقة (ومن خلفها أجيال كاملة من المراهقين وأهاليهم في فرنسا وأوروبا)، التي باتت ترى في عدم الخجل من شتم الآخر والمجاهرة بكراهيتها له، حقًّا وجرأة وبسالة، هي ثمرة سياساتكم وخبثكم وفشلكم في استيعاب الآخر ودمجه. لا بل إنها ضحيّتكم وقنبلتكم الموقوتة التي تنذر بأسوأ انفجار، وقد استغللتم رعونتها وسذاجتها، وعلّمتموها عدم الاعتذار وقلة الأخلاق والانغلاق على الذات.
أمّا أنتم يا جحافل المهدّدين بالقتل والسحل والحرق بالأسيد، فبئسا لكم، واعلموا ألا شيء يبرّر التهديد بقتل إنسان، وأنكم في المحصّلة لأشدّ بذاءة وأكثر إساءة إلى الإسلام وأهله، من كل أولئك الكذبة المتشدّقين.