تستقبل الصباح الدامي بابتسامة مريرة. تخرج من المنزل ونظرك إلى الأسفل. تمضي إلى عملك مقبلاً على الحياة وخجلاً من بقائك حياً في الوقت ذاته، لا تتحدّث في شؤون الثورات والطوائف، وتحيد بنظرك عن صور العنف وعن الجائعين ومصابي الحرب والوحيدين، أمثالك.
تُوافق الجميع على ما يقولونه، وتبلع أفكارك الشخصية، تعرف تاريخ الجميع، لكن ثمة ما هو أشدّ إلحاحاً، يمنعك من الدخول في سجال مع أحد. الجميع على حق، تلك القاعدة السحرية التي تؤمّن عودتك إلى المنزل كلّ يوم في بلد يضج بالسلاح وبالقتل الذي يرتدي الأفكار.
ترى امرأة تبكي في شارع بغداد، تقترب منها، ثم تبتعد بسرعة، خائفاً من أن تسألك حاجة أنت عاجز عن تلبيتها، تهرب مجدّداً من عجزك المديد عن فعل شيء عدا الكتابة التي بدأت تشك في جدواها. أليس للكاتب الحق في أن يكون متشائماً؟ لكن ما يؤرقك بالفعل هو أن المغامرة أصبحت في البقاء لا في استمرار الكتابة، فالذين غادروا تركوا ذاكرتهم بيننا، وأنت الآن تسير في الشوارع مثل طائر فوق الخراب.
لا تعرف مسؤولاً واحداً لكي تطرق بابه في المحن التي تدفعك إليها الإقامة في بلد تحكمه الأهواء، تسألك صديقتك على فيسبوك عن سبب قلة ثقتك بنفسك، فتسألها عن سبب سؤالها، بدلاً من الإجابة، رغم أنّ السؤال لم يقلقك، بقدر ما أقلقتك الإجابة التي بقيت في داخلك، طالما لا تعرف أحداً خارج البلاد، أيضاً، ليسأل عنك، ما القيمة التي سيضيفها إلى الخراب العام؟ تَعلّم أن يبقى رأيك لك وحدك. والأفضل، ألّا تملك رأياً على الإطلاق، في حروب العار. أيّ أمر استحق كلّ ذلك الموت؟ أليس سؤالك، هذا، رأياً؟
■ ■ ■
أفكر، وأنا أخبئ في جوفي فكرة لا تلائم مكان جلوسي: ما الذي دفع الكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف إلى العدول عن فكرة السفر بعد مكالمة ستالين معه، هل جملة واحدة قالها الأخير، مثل "وهل يستطيع كاتب روسي، مثلك، الحياة خارج روسيا؟" كانت كافية لإقناعه بالعدول عن فكرة مسيطرة بالرحيل عن بلده؟
الرأفة بالناس الذين يشفقون عليك بدورهم، هي التي قيّدتك بذلك السحر المطمئن، الجميع هنا يشفق على الجميع، حتى أنّ صديقي بات يرى القتل نوعاً من الشفقة!
■ ■ ■
تشعر بالغبطة لاقتراب النهايات، في الوقت نفسه أنت خائف جداً، قد تقترن الطمأنينة بالخوف، فالحياة في الظلّ، تكشف لك ثنائيات لا معقولة. وتجسر على كتابتها، رغم ذلك. لم تعد تلفتك العناوين التي تملك أضداداً مركّبة غصباً، إذ لم تعد تعرف ضحكاً خالياً من المرارة أو فرحاً خالياً من الحزن، وترى أنّ لرواية غالب هلسا "الضحك" اسماً خلاباً، لأنّ فيه تكثيفاً هائل الدلالة.
يبدو أنّ الكتابة الجيدة، الآن، تقتضي التفريط بالمسلّمات جميعها، حتى العقلية منها. وإلّا، كيف لبلد عمره سبعة آلاف عام أن ينام مهدّداً، ويفيق منهوكاً من أخبار المجازر التي امتدّت على كامل مساحته: مجازر دموية، وأخرى مجازية لكافة أشكال الحياة. إن كُنّا نجونا من الموت، فكيف سننجو من أيامنا التي تتداعى؟
■ ■ ■
ما الفرق بين بلدٍ منهزم،
وسوطٍ يهوي على الأصابع؟
أكتب عنكِ بقلبٍ مهترئ،
ورأسٍ مسكونٍ بالجثث.
* كاتب سوري