من مكان عملها في العاصمة اللبنانية بيروت، اتصلت سامية، بعيادة طبيب الصحة العامة، طالبة تحديد موعدٍ عاجلٍ لمعرفة أسباب الأوجاع والأعراض التي تصيبها من تعبٍ وكسلٍ وفقدان شهية وإحساسٍ دائمٍ بالحاجة إلى النوم، بعدما أُرجِئَت الزيارة مرّات عدّة نتيجة فيروس كورونا الجديد وإقفال البلاد تنفيذاً لحالة التعبئة العامة. كان الاتفاق على يوم محدد من مايو/ أيار الماضي، ففيه يسمح لها بأن تقود سيارتها، استجابة لقيود حركة السير على الطرقات اللبنانية تبعاً للوحات السيارات "مفرد - مزدوج".
استيقظت سامية في الصباح الباكر، يومها، ووزعت راتبها كما تفعل كلّ شهر. قسم يخصَّص لدفع قرض السيارة. قسم لفواتير المنزل من كهرباء واشتراك المولد الكهربائي والهاتف وصيانة المبنى وغيرها. والبعض الآخر تختار على أساسه المشتريات بحسب الأولويات التي تغيّرت نتيجة الغلاء الفاحش مقابل خسارتها معظم قيمة راتبها الموقّع وفق عقد العمل بالدولار والذي تتقاضاه بالعملة الوطنية وفق سعر الصرف الرسمي أي 1515 ليرة منذ بدء أزمة شحّ الدولار في حين تجاوز سعر الصرف 9900 ليرة لبنانية، في السوق السوداء، أمس الخميس.
وبما أنّ الصحة تأتي في المرتبة الأولى، ضحّت سامية ببعض "الكماليات" وأخذت معها مبلغ 450 ألف ليرة (300 دولار تقريباً وفق سعر الصرف الرسمي) على أساس أن تدفع به كشف الطبيب الذي نصحتها به صديقتها، وكلفته 50 ألف ليرة (نحو 33 دولاراً) وتسدد ثمن الدواء في حال وصفه لها وتترك المتبقي منه لإجراء الفحوص الطبية التي يمكن أن يطلبها.
خرجت سامية من عيادة الطبيب مذهولة، ليس من نتيجة الكشف (أتت مطمئنة وتقتصر على إرهاق يمكن معالجته بمتممات غذائية، كما طلب منها إجراء بعض الفحوص المخبرية الروتينية) بل من فاتورة الكشف التي تضاعفت وبلغت 100 ألف ليرة لبنانية، على أن تدفع في الموعد الثاني الذي حُدّد لها بهدف عرض النتائج على الطبيب مبلغ 50 ألف ليرة إضافية أيضاً، مع العلم أنّ تلك المراجعة غالباً ما تكون مجانية. وعند سؤال سكرتيرة الطبيب عن سبب زيادة سعر الكشف، ردّت أنّ ذلك يعود للغلاء الفاحش وفوضى سعر صرف الدولار، وأكملت بابتسامة فيها كثير من الوجع: "سأوفّر عليك صدمة ثانية، بأنّ أسعار الفحوص المخبرية ارتفعت أيضاً.. الله يكون معك".
سامية واحدة من عشرات الأشخاص الذين تواصلت معهم "العربي الجديد" لتكوين فكرة عن اختلاف أسعار تعرفة الطبيب منذ انتشار فيروس كورونا في لبنان وتدهور الأوضاع المعيشية السابق على كورونا، ولسان حال الناس كان: "لا نجرؤ على المرض" بمعنى أنّ بدل الكشف بات موجعاً أكثر من المرض نفسه. أما من اضطرّ إلى زيارة الطبيب فيتحدّث عن أسعار تراوحت بين 80 دولاراً و100 دولار، ومن الأطباء من احتسب الدولار وفق سعر الصرف الرسمي، والقسم الأكبر اعتمد سعر الصرف لدى الصرافين الشرعيين أي نحو 4000 ليرة، ما يعني أنّ كشف الزيارة الأولى للطبيب يمكن أن يصل إلى 400 ألف ليرة، علماً أنّ "الزيارة الأولى" تشمل عادة تقديم شرحٍ عن العوارض لدى المريض وإعطاء معلومات حول سجله الصحي سواء كان يعاني من أمراض معينة أو أجرى عمليات في الماضي، أو كان من المدخنين وإن كانت لديه حساسية من مادة معينة، أو هناك أمراض وراثية في عائلته، وما إلى ذلك، مع احتمال إجراء فحص سريع تبعاً للحالة التي يشكو منها والتي على أساسها يُحدّد له الفحوص الطبية الواجب إجراؤها وموعد لـ"زيارة المتابعة" في حين، اشترط بعض الأطباء القبض بالدولار فقط.
وعلمت "العربي الجديد" أنّ عيادات تعود لأطباء داخل مستشفيات خاصة في بيروت، علّقت لافتة على الجدار الخارجي حدّدت فيها تعرفة "الزيارة الأولى" بـ150 ألف ليرة لبنانية (100 دولار رسمياً)، و100 ألف (67 دولاراً رسمياً) للمراجعة.
في هذا السياق، يلفت نقيب الأطباء شرف أبو شرف، في حديثه مع "العربي الجديد" إلى أنّ مذكرة إعلامية صدرت عام 2014 تتعلق بتعرفة الأطباء، وجاءت بعد سلسلة لقاءات بين الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة (جهتان ضامنتان للقطاعين الخاص والعام) ووزارة الصحة ونقابتي الأطباء والمستشفيات، ورفعت بنتيجتها قيمة الأعمال الطبية وأصبحت معاينة الاختصاصي داخل المستشفيات 40 ألف ليرة لبنانية (نحو 26 دولاراً رسمياً) وخارجها 50 ألف ليرة (نحو 33 دولاراً) أما معاينة الطب العام فبلغت 28 ألف ليرة (نحو 18 دولاراً رسمياً) داخل المستشفى و33 ألف ليرة (22 دولاراً رسمياً) خارجها. ويوضح أبو شرف أنّ "عمل الطبيب يندرج في إطار المهن الحرّة وبالتالي فإنّه غير ملزم بتعرفة معينة ومن حقه تحديد قيمة أتعابه بالاتفاق مع مريضه في حال لم يكن ملتزماً بعقد رسمي مع جهة ضامنة رسمية، كما أنّ أنظمة النقابة تحفظ حق المريض المطلق في اختيار طبيبه، ولا تنازعه في ذلك أيّ جهة على الإطلاق، لكنّنا كنقابة تمنّينا على الأطباء مراعاة الوضع المعيشي للمرضى، وقد التزم قسم كبير منهم بالمبلغ المحدد في المذكرة، ومنهم من رفع التعرفة حتى 300 ألف ليرة (200 دولار رسمياً) من دون أن ننسى أنّ الغلاء المعيشي وتداعيات أزمة الدولار تنعكس أيضاً على الأطباء فهم جزء من المجتمع ويعانون من الأوضاع المعيشية والاقتصادية، كما تمنّينا عليهم قبض التعرفة بالليرة اللبنانية لا بالدولار الأميركي. وبعض المستشفيات حدّدت بدورها بدل كشف الطبيب في العيادات التابعة لها".
يضيف النقيب أنّ الأسعار ارتفعت أيضاً في المختبرات التي تحتاج إلى أدوات أولية تدفع ثمنها بالدولار وفق سعر الصرف الموازي، ما يحتم رفع التكلفة، وطاولت الزيادة الفحوص مثل الصورة الصوتية لقلب الأطفال على سبيل المثال أصبحت 350 ألف ليرة (234 دولاراً رسمياً) بعدما كانت سابقاً 250 ألف ليرة (167 دولاراً رسمياً).
من جهته، يوضح نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون لـ"العربي الجديد" أنّه يجب أن نفرّق بين التعرفة التي يتقاضاها الطبيب في عيادته داخل المستشفى وبين أتعابه عندما يعالج مرضى دخلوا إلى المستشفى، إذ إنّه في الحالة الأولى يمكن للطبيب أن يتقاضى ثمن الكشف بالمبلغ الذي يحدّده، أما في الحالة الثانية فهو ملزم بالتعرفة التي تحددها الجهات الضامنة والتي لم تتغير و(هي واردة في المذكرة أعلاه). ويشير النقيب هارون إلى أنّ الضمان يغطّي مبلغ 40 ألف ليرة لبنانية (نحو 26 دولاراً رسمياً) للطبيب الاختصاصي داخل المستشفى، و80 ألف ليرة لبنانية (نحو 53 دولاراً رسمياً) إذا كان المريض داخل العناية الفائقة، في حين يغطي الضمان بمبلغ 37 ألفاً و500 ليرة (25 دولاراً رسمياً) بتعرفة الطبيب داخل العيادة.
بدوره، يلفت محمد شمس الدين، الباحث في "الدولية للمعلومات" (شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات علمية مستقلّة) "العربي الجديد" الى أنّ عدد المنتسبين للضمان الاجتماعي في لبنان هو 594.926 مضموناً، ويستفيد منه، 814.155 شخصاً (أصحاب الضمان والمستفيدون معهم من أسرهم) وهناك من يستفيد من تعاونية موظفي الدولة والاستشفاء العسكري، في حين يقدّر غير المضمونين بنحو مليوني شخص (لا تعداد رسمياً للبنانيين، ويمكن أن يصل عددهم داخل لبنان إلى 5 ملايين نسمة بحسب تقديرات غير رسمية).
الغلاء طاول أيضاً أطباء الأسنان، الذين يعتمدون في جزءٍ كبيرٍ من المواد التي يستخدمونها خصوصاً تلك المستوردة التي يشترونها بالدولار. وقد ارتفع سعرها كثيراً نتيجة فوضى سعر الصرف واضطرار الأطباء إلى شراء الأدوات والمواد الطبية من الشركات والتجار تبعاً لسعر الصرف في السوق الموازي وليس وفق سعر الصرف الرسمي أي بفارق كبير جداً، وإلاّ عليهم دفع ثمنها نقداً بالدولار، ما يرفع تلقائياً أسعار العمليات التي يجرونها. يقول أحد أطباء الأسنان، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه، لـ"العربي الجديد": "ندرك وجع المواطن وحال التعب التي وصل إليها لكثرة المشاكل في هذا البلد، لكن عليه ألاّ يوجه سهامه علينا فنحن ضحية مثله، ونحاول قدر الإمكان لما فيها هذه المهنة من حسّ إنساني أن نرفع أسعارنا بشكل لا يوقعنا في خسائر كبيرة ولا يحقق لنا أرباحاً في الوقت نفسه. يكفي التفكير بالأسعار التي اختلفت على الطبيب حتى في أبسط الأشياء مثل القفازات والكمامات التي نستعملها، فقد باتت أضعاف أسعارها القديمة... فما بالك إذا ما تحدثنا عن أسعار الأدوات الطبية والأدوية التي نستعملها من بنج وتبييض أسنان وغيرهما!؟".