في صيف عام 2016، هدد رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بالتوجه للقضاء لكي تتحمل بريطانيا مسؤوليتها القضائية عن وعد بلفور الذي منح فلسطين لليهود. سرعان ما هبط تهديد عباس إلى مجرد طلب اعتذار من حكومة بريطانيا، الذي قابلته برفض مطلق. بل تحوّل الأمر إلى إهانة للفلسطينيين عندما أعلنت الحكومة أن رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، سوف تحتفل بمئوية وعد بلفور في حفل عشاء برفقة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في بيت اللورد روتشيلد، سليل جيمس روتشيلد، الذي كان الوعد على شكل رسالة موجهة له.
منذ ذلك الوقت، لم تهدأ الأصوات الداعية إلى مقاضاة بريطانيا، وما زال بعض السياسيين الفلسطينيين يثيرون الموضوع كأحد الخطط المستقبلية. لكنّ أحدا، كما يبدو، لم يكترث لحقيقة أنه لا يوجد أي أساس قانوني لدعوى كهذه. فبخلاف المسؤولية السياسية والأخلاقية، ولا جدال هنا أن بريطانيا لعبت دورا سيئا على هذه المستويات، تبقى المسؤولية القانونية أمرا شائكا لأسباب عديدة. فهناك العديد من الأسئلة حول الحجج القانونية وحول المحكمة المختصة.
على مستوى القانون الدولي، محكمة العدل الدولية هي أقرب لمؤسسة تحكيم منها إلى محكمة، أي أن على الأطراف القبول بصلاحيتها. هنا يوجد حاجزان، الأول أن "دولة فلسطين" (وهي غير موجودة وإن اعترف بها عدد من الدول) ليست من الدول التي يحق لها التقاضي أمام محكمة العدل الدولية، لأنها ليست عضوة في الأمم المتحدة ولم تستوف الشروط الأخرى كتوصية مجلس الأمن، والثاني أن بريطانيا من طرفها تقبل الولاية الجبرية فقط بالنسبة لنزاعات حصلت بعد عام 1987. إمكانية طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة لفتوى من المحكمة ممكنة هنا، لكن من المرجح أن تقوم المحكمة برفض الطلب بسبب صفته النزاعية، أي نزاع بين طرفين، وليس كسؤال قانوني لمساعدة الأمم المتحدة على تبيان الوضع القانوني.
اقــرأ أيضاً
في حالة النجاح في تخطي الحواجز الإجرائية، يبقى السؤال: ما هي الحجة القانونية؟ قد تكون ممارسة الاستعمار إحدى هذه الحجج. فوعد بلفور أسس وسهّل لعملية الاستعمار. هنا تصبح الأمور أكثر تعقيداً، حيث تبرز العديد من الأسئلة: ماذا كانت طبيعة الوجود البريطاني في فلسطين منذ احتلالها في عام 1917 وحتى النكبة؟ وما هي علاقة وعد بلفور بهذا الوجود؟ ومن هي الأطراف المسؤولة عنه؟
اقــرأ أيضاً
وعد بلفور كان تصريحا لوزير خارجية عن سياسة بلاده. هذا التصريح بحد ذاته لا قيمة قانونية له، إذ إن بلاده لم تكن تسيطر على فلسطين آنذاك. أما بعد احتلالها من قبل القوات البريطانية فقد كانت في طور المناطق المحتلة. في عام 1920 اتفقت القوى التي فازت في الحرب العالمية الأولى على أن تكون فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وعلى أن تقوم الدولة المنتَدَبة (أي بريطانيا) بوضع تصريح بلفور حيز التنفيذ. هذا الاتفاق الذي كان بين خمس دول (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، الولايات المتحدة واليابان) أصبح في عام 1922 جزءاً من صك الانتداب الذي عين بريطانيا كدولة انتداب. فوعد بلفور وسياسة إقامة "البيت القومي اليهودي" كانت من أساسيات الانتداب، إذ تم ذكرها في ديباجة الصك، وفي عدة بنود. ففي البند الثاني، أناطت عصبة الأمم بريطانيا بمسؤولية وضع البلاد في ظروف سياسية وإدارية واقتصادية لضمان إقامة البيت القومي اليهودي. أما البند السادس فقد شدد على مهام الإدارة في فلسطين ومسؤوليتها عن تسهيل الهجرة اليهودية. وقد وافق جميع الدول الأعضاء التي بلغ عددها 52 آنذاك على هذه البنود.
الوجود البريطاني في فلسطين كان كدولة انتداب. فعلياً تصرفت بريطانيا وكل دول الانتداب الأخرى كأنها دول مستعمِرة. لكن قانونيا لم تكن كذلك، لأن وجودها كان بتخويل من عصبة الأمم وبالنيابة عنها، لكي تساعد سكان تلك البلدان في الوصول إلى مراحل تطور تتيح لها إدارة أمورها بشكل مستقل. وقد كانت عصبة الأمم تراقب ما يجري عبر مجلسها ولجنة الانتداب. هذا التوجه الفوقي والعنصري كان هو المناخ السياسي والقانوني السائد. ووفقا لهذا المناخ، ما تراه الشعوب المستعمَرة كاستعمار ليس هو بالاستعمار من ناحية قانونية، بل انتداب وكأمانة دولية في يد القوى الكبرى. فقط في عام 1960 تم استصدار الأداة الأولى ضد الاستعمار في القانون الدولي بصيغة الإعلان بشأن إعطاء الاستقلال للبلاد والشعوب المستعمَرة.
إذاً، ما عاشه الفلسطينيون والسوريون واللبنانيون والعراقيون كاستعمار ليس بالاستعمار، لأنه على صيغة انتداب، وإن كان فعلا استعمارا، فالاستعمار لم يكن ممنوعا في ذلك الوقت. وإن تخطينا هذه العقبة، يبقى سؤال الطرف المسؤول: لماذا نلاحق بريطانيا إذا كانت قد فعلت ما فعلت بالنيابة عن العالم كله، أو على الأقل نيابة عن الدول الـ52 التي وافقت؟
اقــرأ أيضاً
لن تكون احتمالات النجاح أوفر إذا ما تم التوجه للقضاء البريطاني. وعد بلفور وكل ما لحقه من أدوات قانونية، كالقرار في مجلس البلاط بشأن فلسطين الذي كان فعليا الدستور في عهد الانتداب، هي جميعها تصنف في خانة العلاقات الدولية. ووفقا للمبادئ الدستورية البريطانية، فإن تنظيم العلاقات الخارجية يقع ضمن ما يعرف بالصلاحيات الملكية، وهذه صلاحيات دستورية يرجع أصلها إلى العصور الوسطى، عندما تمتع الملوك بصلاحيات شبه مطلقة. بسبب الطبيعة السياسية لهذه الصلاحيات، خصوصا في مجال العلاقات الدولية، تنأى المحاكم بنفسها عن البت فيها.
هذا العرض المقتضب لأهم الأسئلة القانونية، وصعوبة الحصول على أي نتيجة عبر اللجوء إلى القضاء، يثيران أسئلة أكبر عن القانون وعلاقته بالسياسة. فالقانون في الكثير من أبعاده تعبير عن علاقات القوى وشبكات المصالح، إن كان على المستوى الدولي أو على مستوى المجتمع. والسؤال الآخر الذي يجب طرحه هنا هو: لماذا يطرح موضوع مقاضاة بريطانيا بسبب وعد بلفور الآن وعلى مستوى رئيس السلطة الفلسطينية؟ يبدو أن هذا النقاش مثله مثل المبادرات القانونية الأخرى للقيادة الفلسطينية: هو نوع من الهروب من المسؤولية السياسية. فبدلا من التفكير الجدي في الخيارات السياسية الممكنة وأخذ زمام المبادرة السياسية، تلجأ القيادة الفلسطينية إلى طرح بعض الأفكار التي هي أقرب إلى خدع استعراضية، للإيحاء بأنها فاعلة لتعزيز المصالح والحقوق الفلسطينية. في الحقيقة هذه الاستعراضات هي نوع من الهروب من السياسة. وعد بلفور كان في جوهره سياسيا، والرد الأفضل عليه يجب أن يكون ردا سياسيا.
(كاتب فلسطيني/أستاذ في القانون الدولي)
اقــرأ أيضاً
على مستوى القانون الدولي، محكمة العدل الدولية هي أقرب لمؤسسة تحكيم منها إلى محكمة، أي أن على الأطراف القبول بصلاحيتها. هنا يوجد حاجزان، الأول أن "دولة فلسطين" (وهي غير موجودة وإن اعترف بها عدد من الدول) ليست من الدول التي يحق لها التقاضي أمام محكمة العدل الدولية، لأنها ليست عضوة في الأمم المتحدة ولم تستوف الشروط الأخرى كتوصية مجلس الأمن، والثاني أن بريطانيا من طرفها تقبل الولاية الجبرية فقط بالنسبة لنزاعات حصلت بعد عام 1987. إمكانية طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة لفتوى من المحكمة ممكنة هنا، لكن من المرجح أن تقوم المحكمة برفض الطلب بسبب صفته النزاعية، أي نزاع بين طرفين، وليس كسؤال قانوني لمساعدة الأمم المتحدة على تبيان الوضع القانوني.
في حالة النجاح في تخطي الحواجز الإجرائية، يبقى السؤال: ما هي الحجة القانونية؟ قد تكون ممارسة الاستعمار إحدى هذه الحجج. فوعد بلفور أسس وسهّل لعملية الاستعمار. هنا تصبح الأمور أكثر تعقيداً، حيث تبرز العديد من الأسئلة: ماذا كانت طبيعة الوجود البريطاني في فلسطين منذ احتلالها في عام 1917 وحتى النكبة؟ وما هي علاقة وعد بلفور بهذا الوجود؟ ومن هي الأطراف المسؤولة عنه؟
وعد بلفور كان تصريحا لوزير خارجية عن سياسة بلاده. هذا التصريح بحد ذاته لا قيمة قانونية له، إذ إن بلاده لم تكن تسيطر على فلسطين آنذاك. أما بعد احتلالها من قبل القوات البريطانية فقد كانت في طور المناطق المحتلة. في عام 1920 اتفقت القوى التي فازت في الحرب العالمية الأولى على أن تكون فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وعلى أن تقوم الدولة المنتَدَبة (أي بريطانيا) بوضع تصريح بلفور حيز التنفيذ. هذا الاتفاق الذي كان بين خمس دول (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، الولايات المتحدة واليابان) أصبح في عام 1922 جزءاً من صك الانتداب الذي عين بريطانيا كدولة انتداب. فوعد بلفور وسياسة إقامة "البيت القومي اليهودي" كانت من أساسيات الانتداب، إذ تم ذكرها في ديباجة الصك، وفي عدة بنود. ففي البند الثاني، أناطت عصبة الأمم بريطانيا بمسؤولية وضع البلاد في ظروف سياسية وإدارية واقتصادية لضمان إقامة البيت القومي اليهودي. أما البند السادس فقد شدد على مهام الإدارة في فلسطين ومسؤوليتها عن تسهيل الهجرة اليهودية. وقد وافق جميع الدول الأعضاء التي بلغ عددها 52 آنذاك على هذه البنود.
الوجود البريطاني في فلسطين كان كدولة انتداب. فعلياً تصرفت بريطانيا وكل دول الانتداب الأخرى كأنها دول مستعمِرة. لكن قانونيا لم تكن كذلك، لأن وجودها كان بتخويل من عصبة الأمم وبالنيابة عنها، لكي تساعد سكان تلك البلدان في الوصول إلى مراحل تطور تتيح لها إدارة أمورها بشكل مستقل. وقد كانت عصبة الأمم تراقب ما يجري عبر مجلسها ولجنة الانتداب. هذا التوجه الفوقي والعنصري كان هو المناخ السياسي والقانوني السائد. ووفقا لهذا المناخ، ما تراه الشعوب المستعمَرة كاستعمار ليس هو بالاستعمار من ناحية قانونية، بل انتداب وكأمانة دولية في يد القوى الكبرى. فقط في عام 1960 تم استصدار الأداة الأولى ضد الاستعمار في القانون الدولي بصيغة الإعلان بشأن إعطاء الاستقلال للبلاد والشعوب المستعمَرة.
إذاً، ما عاشه الفلسطينيون والسوريون واللبنانيون والعراقيون كاستعمار ليس بالاستعمار، لأنه على صيغة انتداب، وإن كان فعلا استعمارا، فالاستعمار لم يكن ممنوعا في ذلك الوقت. وإن تخطينا هذه العقبة، يبقى سؤال الطرف المسؤول: لماذا نلاحق بريطانيا إذا كانت قد فعلت ما فعلت بالنيابة عن العالم كله، أو على الأقل نيابة عن الدول الـ52 التي وافقت؟
لن تكون احتمالات النجاح أوفر إذا ما تم التوجه للقضاء البريطاني. وعد بلفور وكل ما لحقه من أدوات قانونية، كالقرار في مجلس البلاط بشأن فلسطين الذي كان فعليا الدستور في عهد الانتداب، هي جميعها تصنف في خانة العلاقات الدولية. ووفقا للمبادئ الدستورية البريطانية، فإن تنظيم العلاقات الخارجية يقع ضمن ما يعرف بالصلاحيات الملكية، وهذه صلاحيات دستورية يرجع أصلها إلى العصور الوسطى، عندما تمتع الملوك بصلاحيات شبه مطلقة. بسبب الطبيعة السياسية لهذه الصلاحيات، خصوصا في مجال العلاقات الدولية، تنأى المحاكم بنفسها عن البت فيها.
هذا العرض المقتضب لأهم الأسئلة القانونية، وصعوبة الحصول على أي نتيجة عبر اللجوء إلى القضاء، يثيران أسئلة أكبر عن القانون وعلاقته بالسياسة. فالقانون في الكثير من أبعاده تعبير عن علاقات القوى وشبكات المصالح، إن كان على المستوى الدولي أو على مستوى المجتمع. والسؤال الآخر الذي يجب طرحه هنا هو: لماذا يطرح موضوع مقاضاة بريطانيا بسبب وعد بلفور الآن وعلى مستوى رئيس السلطة الفلسطينية؟ يبدو أن هذا النقاش مثله مثل المبادرات القانونية الأخرى للقيادة الفلسطينية: هو نوع من الهروب من المسؤولية السياسية. فبدلا من التفكير الجدي في الخيارات السياسية الممكنة وأخذ زمام المبادرة السياسية، تلجأ القيادة الفلسطينية إلى طرح بعض الأفكار التي هي أقرب إلى خدع استعراضية، للإيحاء بأنها فاعلة لتعزيز المصالح والحقوق الفلسطينية. في الحقيقة هذه الاستعراضات هي نوع من الهروب من السياسة. وعد بلفور كان في جوهره سياسيا، والرد الأفضل عليه يجب أن يكون ردا سياسيا.
(كاتب فلسطيني/أستاذ في القانون الدولي)