لا تكتملُ الزيارةُ إلى العاصمة العمانية، مسقط، إلا إذا ذهبت إلى أعرق أسواقها، سوق مطرح، المطل على البحر، والذي تحيط به الجبال الصخرية من كل جانب. عراقةٌ، تملأ الروح بهجة وسعادة، إذ ترى فيه الثقافات، وتنوعها، والأصالة، والتمسك بالتراث الخليجي الغني، علاوةً على ثقافات أخرى تجانست فيهِ، وانصهرت في أتونهِ، بعد أن قدمت من عالم ما وراء البحار، في رحلةِ التُجَّارِ من بلادِ الهندِ والسندِ وأفريقيا إلى الخليجِ العربي، حاملةً معها ملامحها، التي ستصبحُ مع مرور الوقتِ، وجهاً لمطرح.
وأنتَ تمشي في رحاب سوق مطرح، بين دكاكينه، وأزقته الضيقةِ، تتضاربُ فيكَ المشاعرُ.. متسائلاً؛ إن كان هذا السوقُ قطعةً من الشام؟ لا سيما أنَّ الصائغَ الدمشقي يتخذُ له ركناً في هذا السوقِ، ليبيعَ فيه ما تيسَّرَ من الحليِّ والمصوغاتِ الشاميةِ، التي زاوجت الذهب والفضةَ باللؤلؤ البحري، وفي ذاتِ السوق، بالقربِ من "الكورنيش"، سيشدُّكَ صوتُ "فيروز" صباحاً لتكتشفَ أن مطعماً للأكلات الشاميَّةِ قد حلَّ بالقرب من هنا.
مدينة عصية على الفهم
"مسقط.. مدينة عصية على الفهم من أول لمحة، فرغم بساطتها الواضحة إلا أنها لا تقدم نفسها للزائر من أول نظرة، بل تتركه يتفرس بفراغ التفاصيل زمنا غير هين حتى يشعر بها، وكأنه يعانقها"، هكذا يصف القاص والروائي العُماني، محمود الرحبي، مسقط في حديثه مع "العربي الجديد"، مشيراً إلى أن مطرح "سوق ذو طابع تقليدي، حيث سوق الظلام الذي تبدأ رحلة الزوار إليه عادة من البحر، من ميناء مطرح العتيق وتوغلا في سوق الظلام بفراغات سقفه التي يخادشها الضوء". ويتابع الرحبي وصفهُ المكاني قائلا: "من هناك يمكن الانطلاق إلى القلعتين البرتغاليتين (الميراني والجلالي)، اللتين كانتا سجنا عتيدا في غابر الأزمان. البحر كذلك في مطرح ومسقط لديه تضاريسه العجيبة هو الآخر. بحر صخري تبرز منه نتوءات جبلية تشكل جزراً اصطيافية للعزلة، يمكن الوصول إليها عن طريق القوارب التي تتوزع على الشواطئ، وخاصة شاطئي قنتب والبستان، اللذين كانا ذات يوم ملاذا حيويا لبائعي الياسيمن".
ويسترجع صاحب المجموعة القصصية، "ساعة زوال"، ذاكرته عند حديثه عن السوق، مسلطاً الضوء على سوق السمك القديم، الذي كان من ضمن سوق مطرح، إذ شهد في أيام مجده عبور مراكب ولاية صور، التي تشق طريقها من هناك إلى الهند: سفن البدن والسنبوك والغنجة، التي يؤمها نواخذة عتاة، والنوخذة هو قائد السفينة والمسؤول عن مسارها وموجه البحارة في الطرق البعيدة المتوجهة إلى شاطئ كنتون بالصين والبصرة واليمن وزنجبار.
ملامح التاريخ
وأنت في سوق مطرح، ترى ملامح تاريخِ العرب، الخناجر، والسيوف، وثمة أسلحةٌ صدِئةٌ تعودُ للحرب العالمية الثانية، وستجدُ أيضاً المخطوطات والكتبَ القديمةَ النادرةَ، تعرضُ إلى جانب الأواني الفخارية والنحاسية، والنثريات الفضية والذهبية، والمنحوتات، والحلي والأحجار الكريمة، وخليط من البخور واللبان والبهارات والأقمشة والملابس العُمانية والخليجية.
وحتى معمار السوق عبقٌ بالتاريخ، ويحملُ ملامحَ عُمان التراثية؛ فالأرضياتُ مرصوفةٌ بعنايةٍ فائقةٍ بحجارةٍ صغيرةٍ ومتوسطة الحجمِ، والأسقفُ مزدانةٌ بالنقوشِ والثرياتِ والقطعِ الفنيةِ، والتي تشكل في مجموعها، وعلى امتدادِ السوق، لوحة فسيفساء متناسقةً (موزاييك).
في الخارج، وبشكل ملاصق للسوق من الجهة البحرية، ترى بعض البيوت العُمانية التراثية المتصلة به، ويشدكَ إليها تلك المشربيات، وهي طراز معماري للشرفات، قائم على أعمال نحت خشبية، يعرف في العراق بـ "الشناشيل".
ونظراً إلى ما يحتويه السوق من معروضات تراثية ومشغولات يدوية، فقد تحول إلى مقصد رئيسي للزوار الأجانب باعتبارهِ متحفاً للتعرفِ على التاريخ والتراث، فلا غرابةَ إن سألت بائعاً كي تشتري أحد المقتنيات، ليعتذر منكَ بلطفٍ؛ لأن هذه القطعةَ المعروضة لا تُحدد قيمتها بالمال، كونها موروثاً عائليّاً خاصّاً به، وصل إليه من أجدادهِ، وغاية عرضه تعريف الجمهور به ليس إلا؛ فليسَ كل ما يعرض في مطرح قابلاً للبيع.
ومع تحولهِ مقصداً سياحيًّا؛ أصبحَ السوقُ مكتظاً على مدارِ الساعة، بالزوارِ والمتجولينَ، إلا أنه يلتقطُ أنفاسهُ خلال فترة الاستراحةِ التي تمتدُّ من الساعةِ الواحدةِ ظهرا حتى الرابعة عصرا، ثم يعودُ إلى نشاطهِ، حيث شبَّهَ البعضُ اكتظاظهُ بـ سوق "زنقة الستات" في الإسكندرية بمصر.
قصيدة حب إلى مطرح
بالقرب من المكان الذي سُمِّيَ "مطرح"، تتوزعُ الأشجارُ الوارفةُ بظلالها، لتمنح النفسَ طمأنينةً، وراحةً، تدفعكَ إلى الجلوسِ على المقاعدِ الحجرية، لتتأمل بضعَ حمامٍ يقتاتُ الفتات، دونَ أن يكترثَ للمارةِ، أو لقطٍّ يلهو بملامحِ ظلِّهِ.
وقبلَ أن تكنسَ خُطاكَ في طريق العودة؛ تستلُّ من الشعرِ قصيدةَ "حُبٍّ إلى مطرح"، وتسترجعُ مع كاتبها سيف الرحبي، قبساً من طفولتهِ، فتقرأ:
"أطلقُ بين مقلتيك منجنيق طفولتي
وأصطاد نورساً تائهاً في زعيق السُفن
نجومك أميرات الفراغ
وفي ليل عُريك الغريب تضيئين
الشموع لضحاياك كي تنيري
طريقهم للهاوية.
أبعثر طيورك البحرية لأظل وحيداً.
أصغي إلى طفولة نبضك المنبثق من
ضفاف مجهولة،
تمزق عواصفها أشرعة
المراكب
كم من القراصنة سفحوا أمجادهم
على شواطئك
المكتظة بنزيف الغربان
كم من التجار والغزاة
عبروك في الحلم
كم من الأطفال منحوك جنونهم
مثل ليلة بهيجةٍ
لعيد ميلاد غامض؟
القرويون أتوك من قراهم،
حاملين معهم صيفاً من الذكريات
مطرح الأعياد القزحيّة البسيطة
والأمنيات المخمرة في الجرار،
الدنيا ذهبت بنا بعيداً
وأنت ما زلت تتسلقين أسوارك القديمة".
وأنتَ تمشي في رحاب سوق مطرح، بين دكاكينه، وأزقته الضيقةِ، تتضاربُ فيكَ المشاعرُ.. متسائلاً؛ إن كان هذا السوقُ قطعةً من الشام؟ لا سيما أنَّ الصائغَ الدمشقي يتخذُ له ركناً في هذا السوقِ، ليبيعَ فيه ما تيسَّرَ من الحليِّ والمصوغاتِ الشاميةِ، التي زاوجت الذهب والفضةَ باللؤلؤ البحري، وفي ذاتِ السوق، بالقربِ من "الكورنيش"، سيشدُّكَ صوتُ "فيروز" صباحاً لتكتشفَ أن مطعماً للأكلات الشاميَّةِ قد حلَّ بالقرب من هنا.
مدينة عصية على الفهم
"مسقط.. مدينة عصية على الفهم من أول لمحة، فرغم بساطتها الواضحة إلا أنها لا تقدم نفسها للزائر من أول نظرة، بل تتركه يتفرس بفراغ التفاصيل زمنا غير هين حتى يشعر بها، وكأنه يعانقها"، هكذا يصف القاص والروائي العُماني، محمود الرحبي، مسقط في حديثه مع "العربي الجديد"، مشيراً إلى أن مطرح "سوق ذو طابع تقليدي، حيث سوق الظلام الذي تبدأ رحلة الزوار إليه عادة من البحر، من ميناء مطرح العتيق وتوغلا في سوق الظلام بفراغات سقفه التي يخادشها الضوء". ويتابع الرحبي وصفهُ المكاني قائلا: "من هناك يمكن الانطلاق إلى القلعتين البرتغاليتين (الميراني والجلالي)، اللتين كانتا سجنا عتيدا في غابر الأزمان. البحر كذلك في مطرح ومسقط لديه تضاريسه العجيبة هو الآخر. بحر صخري تبرز منه نتوءات جبلية تشكل جزراً اصطيافية للعزلة، يمكن الوصول إليها عن طريق القوارب التي تتوزع على الشواطئ، وخاصة شاطئي قنتب والبستان، اللذين كانا ذات يوم ملاذا حيويا لبائعي الياسيمن".
ويسترجع صاحب المجموعة القصصية، "ساعة زوال"، ذاكرته عند حديثه عن السوق، مسلطاً الضوء على سوق السمك القديم، الذي كان من ضمن سوق مطرح، إذ شهد في أيام مجده عبور مراكب ولاية صور، التي تشق طريقها من هناك إلى الهند: سفن البدن والسنبوك والغنجة، التي يؤمها نواخذة عتاة، والنوخذة هو قائد السفينة والمسؤول عن مسارها وموجه البحارة في الطرق البعيدة المتوجهة إلى شاطئ كنتون بالصين والبصرة واليمن وزنجبار.
ملامح التاريخ
وأنت في سوق مطرح، ترى ملامح تاريخِ العرب، الخناجر، والسيوف، وثمة أسلحةٌ صدِئةٌ تعودُ للحرب العالمية الثانية، وستجدُ أيضاً المخطوطات والكتبَ القديمةَ النادرةَ، تعرضُ إلى جانب الأواني الفخارية والنحاسية، والنثريات الفضية والذهبية، والمنحوتات، والحلي والأحجار الكريمة، وخليط من البخور واللبان والبهارات والأقمشة والملابس العُمانية والخليجية.
وحتى معمار السوق عبقٌ بالتاريخ، ويحملُ ملامحَ عُمان التراثية؛ فالأرضياتُ مرصوفةٌ بعنايةٍ فائقةٍ بحجارةٍ صغيرةٍ ومتوسطة الحجمِ، والأسقفُ مزدانةٌ بالنقوشِ والثرياتِ والقطعِ الفنيةِ، والتي تشكل في مجموعها، وعلى امتدادِ السوق، لوحة فسيفساء متناسقةً (موزاييك).
في الخارج، وبشكل ملاصق للسوق من الجهة البحرية، ترى بعض البيوت العُمانية التراثية المتصلة به، ويشدكَ إليها تلك المشربيات، وهي طراز معماري للشرفات، قائم على أعمال نحت خشبية، يعرف في العراق بـ "الشناشيل".
ونظراً إلى ما يحتويه السوق من معروضات تراثية ومشغولات يدوية، فقد تحول إلى مقصد رئيسي للزوار الأجانب باعتبارهِ متحفاً للتعرفِ على التاريخ والتراث، فلا غرابةَ إن سألت بائعاً كي تشتري أحد المقتنيات، ليعتذر منكَ بلطفٍ؛ لأن هذه القطعةَ المعروضة لا تُحدد قيمتها بالمال، كونها موروثاً عائليّاً خاصّاً به، وصل إليه من أجدادهِ، وغاية عرضه تعريف الجمهور به ليس إلا؛ فليسَ كل ما يعرض في مطرح قابلاً للبيع.
ومع تحولهِ مقصداً سياحيًّا؛ أصبحَ السوقُ مكتظاً على مدارِ الساعة، بالزوارِ والمتجولينَ، إلا أنه يلتقطُ أنفاسهُ خلال فترة الاستراحةِ التي تمتدُّ من الساعةِ الواحدةِ ظهرا حتى الرابعة عصرا، ثم يعودُ إلى نشاطهِ، حيث شبَّهَ البعضُ اكتظاظهُ بـ سوق "زنقة الستات" في الإسكندرية بمصر.
قصيدة حب إلى مطرح
بالقرب من المكان الذي سُمِّيَ "مطرح"، تتوزعُ الأشجارُ الوارفةُ بظلالها، لتمنح النفسَ طمأنينةً، وراحةً، تدفعكَ إلى الجلوسِ على المقاعدِ الحجرية، لتتأمل بضعَ حمامٍ يقتاتُ الفتات، دونَ أن يكترثَ للمارةِ، أو لقطٍّ يلهو بملامحِ ظلِّهِ.
وقبلَ أن تكنسَ خُطاكَ في طريق العودة؛ تستلُّ من الشعرِ قصيدةَ "حُبٍّ إلى مطرح"، وتسترجعُ مع كاتبها سيف الرحبي، قبساً من طفولتهِ، فتقرأ:
"أطلقُ بين مقلتيك منجنيق طفولتي
وأصطاد نورساً تائهاً في زعيق السُفن
نجومك أميرات الفراغ
وفي ليل عُريك الغريب تضيئين
الشموع لضحاياك كي تنيري
طريقهم للهاوية.
أبعثر طيورك البحرية لأظل وحيداً.
أصغي إلى طفولة نبضك المنبثق من
ضفاف مجهولة،
تمزق عواصفها أشرعة
المراكب
كم من القراصنة سفحوا أمجادهم
على شواطئك
المكتظة بنزيف الغربان
كم من التجار والغزاة
عبروك في الحلم
كم من الأطفال منحوك جنونهم
مثل ليلة بهيجةٍ
لعيد ميلاد غامض؟
القرويون أتوك من قراهم،
حاملين معهم صيفاً من الذكريات
مطرح الأعياد القزحيّة البسيطة
والأمنيات المخمرة في الجرار،
الدنيا ذهبت بنا بعيداً
وأنت ما زلت تتسلقين أسوارك القديمة".