معارك "التنوير" الزائفة في مصر
ليس أدل على حالة الفراغ الفكري والتصحُر السياسي في مصر، من ضجيج معارك "التنوير" الزائفة التي تضج بها برامج "اللهو" الليلي على شاشات الفضائيات. ويبدو أنه لم يعد هناك ما يملأ فراغ الحياة اليومية في مصر، بعد أن جرى تأميم المجال العام وإغلاق نوافذ التعبير، سوى إشعال معارك "وهمية"، هدفها الرئيس إلهاء الناس عن مشكلاتهم وأزماتهم، على طريقة "بُص العصفورة" بلغة المصريين.
فمن معركة مفتعلة حول "تجديد التراث"، إلى معركة أكثر افتعالاً وابتذالاً، تتعلق بالدعوة التي أطلقها شخص موتور لمليونية من أجل "خلع الحجاب"، مروراً بـ"غزوة" حرق وإعدام الكتب التي تناولناها في مقال سابق، تغرق البلاد ونخبتها وإعلامها ومؤسساتها في حالة من التيه العقلي الذي يبدو، أحياناً، كما لو كان مقصوداً ومدبراً، وليس أمراً عفويا. فهل هي مصادفة أن تشتعل هذه المعارك "المفتعلة"، بعد أسابيع قليلة من سقوط أساطير "التنمية والرخاء" التي بشّر ووعد بها النظام الحالي؟ وهل هو مجرد توارد خواطر وأفكار بين هؤلاء "التنويريين الجدد"، أن يخرجوا على الناس في وقت واحد، بأطروحاتهم وأفكارهم؟ أم أنها مسألة "عفوية" تلك التي يصبح الحديث المفاجئ عن "التنوير" القاسم المشترك في البرامج الفضائية، وتغطيه الأذرع الإعلامية بمختلف أنواعها؟ فلا تخبو قضية "تنويرية" حتى تشتعل أخرى، وهكذا دواليك، وكأن البلاد قد وصلت إلى مرحلة من الرفاهية الاقتصادية، وحرية التعبير التي تجعل الناس يتحدثون ويتجادلون في قضايا، هي بطبيعتها شائكة، لكنها قطعاً ليست من الأولويات.
والمدهش أن أياً من هؤلاء "التنويريين" أو الإعلام الذي يغطي حواراتهم "ومناظراتهم"، لا يستطيع أن ينبس بكلمة واحدة عن الأوضاع السياسية المتردية في البلاد، أو أن يعلق على القمع "الممنهج" وانتهاكات حقوق الإنسان، أو عن "توحش" أجهزة الأمن ضد المواطنين، أو عن الفساد الذي أغرق مؤسسات الدولة، أو عن الفقر الذي يضرب البلاد شمالاً وجنوباً، أو عن غلاء الأسعار ورفع الدعم عن مستحقيه من الفقراء. ولا يستطيع، أو يجرؤ، أي منهم، أن يدعو إلى وقف "حملة الإعدامات العشوائية" التي تطال كل من له خصومة مع النظام، أو أن يتضامن مع عشرات المُضربين عن الطعام في السجون منذ شهور، أو أن يطالب بمحاكمات عادلة ونزيهة لخصومه السياسيين، أو أن يندد بعمليات التعذيب والقتل المتواصلة لأبرياء في أماكن الاحتجاز. فهؤلاء تنويريون "حسب الطلب"، و"متناظرون" وفق مزاج الجنرال الذي يسيطر عليهم، ويتحكم في عقولهم، ويوجّه أفكارهم، ويشكّل وعيهم، ويحرّك بوصلة ضمائرهم.
معارك "التنوير الزائفة" مرآة عاكسة لما حلّ بمصر، وما نزل بثقافتها وبمثقفيها ومفكريها. فقبل قرن، خاضت مصر معارك "تنوير" حقيقية، جرى معظمها بين عمالقة ومثقفين وأدباء كبار، مثلما حدث بين طه حسين والعقاد، أو بين الأخير والرافعي أو بينه وأمير الشعراء أحمد شوقي. كانت معارك "فكرية" وأدبية كبيرة، لبلد كبير وواعٍ بدوره الثقافي والحضاري. أما الآن، فمعاركنا الفكرية تقزّمت وصغرت، ليس فقط بسبب تهافت قضاياها وبعدها عن القضايا الملّحة، وإنما أيضا بسبب ضحالة من يخوضونها أو يدعون لها وسطحيتها.
صحيح أن لدى مصر مشكلات فكرية وثقافية كثيرة، لكنها جميعاً مجرد عرض لمرض كبير اسمه "الاستبداد"، وهو ما لا يقو أي من هؤلاء "التنويريين الجدد" على قوله. فكل تجارب التنوير "الأصلية" قامت، أساساً من أجل الحرية. ولم يحدث أن استطاع بلد إحداث نهضة حقيقية، أو تنوير ناجع، من دون حرية حقيقية. بل كانت "الحرية" المطلب الأساسي لحركة التنوير في أوروبا، وكانت ثمة رغبة شديدة لدى مثقفي التنوير في التحرر من الملكية المطلقة، والتخلص من كهنوت رجال الدين وتسلّط الكنيسة.
نجحت أوروبا في نهضتها، لأنها استطاعت تحرير "العقل" من سلطة الدولة والكنيسة. وانشغل مثقفوها بقضايا جوهرية وعميقة، مثل إعادة تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والمواطنين. وكان الهدف كيفية الحد من سلطة الدولة لصالح الفرد، ووضع السلطة تحت رقابة الشعب، من خلال مؤسسات تكبح جماح الحاكم، وتحاسبه وتسائله، وتعزله إن أرادت. وقد خاض مثقفو أوروبا معارك فكرية طاحنة مع ممثلي السلطة والكنيسة، لكنهم انتصروا في النهاية، لسبب بسيط هو أن الوقت لم يكن في صالح مؤسسات القمع والاستبداد، وأن التاريخ انحاز للفرد-المواطن الذي هو أصل السلطة ومقرها.
لا يدرك هؤلاء "التنويريون الجدد" أنه لا يمكن أن يحدث "تنوير" في بلد يحكمه جنرال عسكري، أو أن يتم تجديد "التراث الديني"، في وقت لا تتمتع فيه المؤسسة الدينية أو الفقهاء بأية استقلالية حقيقية عن الدولة السلطوية، ولا يعرفون أن "الثقافة" والفكر لن يتطورا في بلد يعاني ربعه من الأمية، أو أن مجتمعاً يعيش نصف سكانه تحت خط الفقر، ويعاني من قصور الخدمات الأساسية، قد يرتقي وينهض.
لا يدرك هؤلاء أن التنوير الحقيقي هو الذي يبدأ من تحرير الفرد، وتحجيم الحاكم، ومساءلة السلطة، وأن ما دون ذلك مجرد "ضجيج بلا طحين"، وإن شئت قل هو "تنوير زائف".