"الحرب الأخيرة في غزة كانت الأصعب. 51 يوماً متصلاً. أتمنى ألا تتكرر مرة أخرى. كلما تذكرت تكون الذكريات مؤلمة وأبكي"، هكذا يصف الشاب الفلسطيني معتصم عواجه (23 عاماً) ما جرى في غزة قبل عام من الآن.
يقيم معتصم في مدينة رفح، ويدرس الماجستير في البرمجيات، وهو حاصل على درجة البكالوريوس في هندسة البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات، وهو شاهد على اعتداءات عدة على قطاع غزة، وراح ضحية تلك الاعتداءات عدد من أصدقائه.
يقول عواجه: "في العائلة لم نخسر أي فرد. جميعنا بخير.عدا ذلك جميع الخسائر القريبة مني تكمن في أصدقائي، فقد استشهد العديد من أصدقائي المقربين أو من هم على معرفة قريبة وقوية، وبعض من درسوا معي في مراحل حياتي".
ويروي: "في الأيام الأولى علمنا باستشهاد صديقي عبد الرحمن، لكن تبين لاحقاً أنه حي بعد إصابة خطيرة. الآن هو لا يتذكر شيئاً. بعد ذلك وعلى مدار فترة الحرب، كل يوم أسمع خبر استشهاد صديق أو إصابة آخر. كل يوم كان هناك حدث. في البداية كنت أبكي إلى أن وصل الأمر بي إلى مرحلة البلادة، لا فائدة من البكاء. جميعنا ينتظر الموت. ننتظر صاروخاً يأتي ويقتلنا جميعاً في أي لحظة".
"كنت أتمنى أن نموت جميعا ولا يبقى منا أحد حتى لا أتحسر على أحد من عائلتي، لا أريد أن أموت وحدي ليتحسروا عليّ، أو يموت أحد منهم لأتحسر عليه. لا أريد أن أعيش تلك المرحلة"، يقول معتصم.
ويجد الشاب الفلسطيني فارقاً واضحاً بين الحرب الثانية والثالثة. "الثانية كانت رداً على اغتيال القائد القسامي الكبير أحمد الجعبري. لم تكن حرباً بمعنى الكلمة، اغتيل الجعبري بالقرب من المكتب الذي كنت أعمل به. لم أسمع صوت الانفجار كان ضعيفاً حينها. ولكني قرأت خبر الاغتيال فأدركت ما جرى، وكتبت على فيسبوك، وأخبرت أصدقائي أن حرباً ستندلع".
"استمرت الحرب الثانية ثمانية أيام، وكانت عبارة عن إطلاق صواريخ متبادل بين حركة المقاومة حماس وإسرائيل. حماس استهدفت للمرة الأولى تل أبيب. كان الجميع فرحاً، وعندها إسرائيل رضخت للهدنة في مصر بضغط من الرئيس وقتها محمد مرسي، وأنا شخصياً لا أعتبرها حرباً"، على حد تعبيره.
ويواصل: "في 2014، مصر قامت بدور سلبي تجاه غزة، وأتمنى أن تنصلح الأحوال بين الحاكمين في غزة وبين مصر من أجل أن نخرج من هذه الأزمة".
ويتابع: "في 2012، وبعد اغتيال الجعبري، ذهبت إلى المستشفى ووجدت العديد من عناصر القسام يبكون. الجميع هناك يبكي والمواطنين كانوا في حزن شديد. أنا أسكن في رفح، وعملي في غزة، أردت الذهاب إلى رفح بسيارة أجرة. لم تكن هناك سيارات، الجميع هرب إلى المنازل لأن غزة بدأ فيها التوتر. كنت بالقرب من مركز شرطة تابع لحماس، أنتظر سيارة. الجميع أخلى المقرات الأمنية، وكان هناك عدد كبير من أهل مدينتي رفح يريدون سيارات أجرة، لكنها لم تكن متوفرة.
بدأ القصف بجوارنا، أكثر من 12 صاروخاً سقط في المركز المجاور. صوت انفجارات هائلة. النساء بدأن بالصراخ وكذلك الأطفال. لم يكن هناك رجال إلا اثنين يحاولان الاتصال بأحدهم ليقلنا، حتى اتصلت بأحد أصدقائي الذين يعملون في الشرطة وأبلغته بالوضع، ليأتي بعدد من السيارات لتقلنا إلى رفح. في طريقنا عودتنا قصفت عدة مواقع وتكسر زجاج السيارة التي أقلتني. وبدأت الحرب".
ويحكي معتصم: "في الحرب الأخيرة 2014، الأجانب كان لديهم عدد من محاولات التضامن مع غزة، وأعتقد أنها الحرب الوحيدة التي كانوا يقفون فيها مع غزة أكثر من العرب أنفسهم. في بريطانيا مثلاً رأيت مظاهرات تندد بالحرب. لم أر مثلها في القاهرة الأقرب إلى غزة".
"المسؤولية كانت على عاتق أهل غزة وحدهم، تحول جميع المواطنين إلى مقاومة. الكل تسلح بالحب والسلاح من أجل صد العدوان. الكل كانوا أبطالاً ومقاتلين. حتى الأمهات والأطفال الذين تلقوا الصواريخ بأجسادهم الضعيفة، ولكل هؤلاء الحب ولهم المجد"، بحسب معتصم.
ويتابع: "كان الخوف يملأ مدينة رفح، ويزيده الأجواء المشحونة بين حماس ومصر، والخوف من توغل الجيش المصري في أراضي غزة مع الجيش الإسرائيلي كان سائداً بين الناس، وبما أني قريب من الحدود كنت أرى تحرك الأليات كل يوم واضعاً يدي على قلبي".
"مجازر الشجاعية وخان يونس، وباقي مناطق القطاع عايشناها جميعنا في رفح. كنت أسمع الأخبار من الراديو أو من خلال الأصدقاء والإنترنت. رفح كانت تتلقى الصواريخ من الطائرات، ولم يصلها الهجوم البري".
اقرأ أيضاً: غزة بعد عام على العدوان: باقية وتتألم
ويضيف: "كنا نسمع أخبار هجوم المقاومة على الجيش الإسرائيلي. كنا نفرح. جميعنا فرح عندما أعلن الناطق باسم القسام، أبو عبيدة، أسر جندي صهيوني. الجيش الإسرائيلي في البداية نفى، ولكنه اعترف بعد ذلك. حينها وقعت مجزرة حي الشجاعية. أكثر من 60 مواطناً قتلوا. حماس تضرب الجنود الإسرائيليين وإسرائيل تضرب المدنيين".
وتابع: "بقيت الحرب هكذا. قصف على هذا المنزل، وقصف على هذه السيارة. في كل يوم يصاب صديق أو يستشهد صديق. إما أن يكون بالقرب من الحدود؛ لأن منزله هناك، أو بالقرب من منطقة يعتقد أنها آمنة لكنها تضرب. لم يكن يوجد مكان آمن في غزة. الكل تحت الاستهداف والكل معرض للقصف، وللموت".
"قصفت إسرائيل مركز إيواء للاجئين من الحرب في المناطق الخطرة. استشهد صديقي حازم. اتصل بأحد الأصدقاء يقول لي افتح التلفاز إن كان لديك كهرباء. كنت حينها قد استيقظت من النوم. كنت أنام في اليوم ساعتين إلى ثلاث ساعات كحد أقصى. رأيت حازم ملقى على الأرض. صرخت هذا حازم لماذا استهدف إنه فتحاوي مسالم ولا يقاتل إسرائيل؟ تبين أن إسرائيل لم تعترف أنها ضربت مركز الإيواء. استشهد عشرة مع حازم. ومضى اليوم".
ويروي: "كنا في رمضان في بداية أيام الحرب. صديقي علاء أفطر عندي، وقرر الذهاب إلى بيته. لم تمض نصف ساعة حتى نزل على بيته صاروخ واستشهد علاء. بكيت ومضى اليوم. بعدها لم أبك على أي من الشهداء. حتى إنه في مرة قصفت إسرائيل منزلاً قريباً من بيتي، حيث البيوت متلاصقة في المخيم. في البداية نزل صاروخان مدمران صوتهما عال. الشظايا وصلت سطح منزلنا. خرجت إلى الشارع وكان هناك دخان كثيف. بدأ الجيران يتجمعون في مكان الاستهداف وهو منزل مكون من طابقين يضم الكثير من الأشخاص الهاربين من المناطق الخطرة، على افتراض أننا في مخيم آمن".
"رأيت الأشلاء. رأيت أكثر من 20 جثة مقطعة. بدأت بالتكبير مع الذين وصلوا هناك. وبدأت في جمع الأشلاء. كنت أصرخ وأبكي. ما هذا... كانوا أطفالاً ونساء فقط. إحدى الجثث طارت إلى سطح منزل آخر. استشهد 23 شخصاً في هذا الاستهداف من عائلة زعرب".
ويحكي معتصم: "كان المفترض أن هناك تهدئة في غزة، تبدأ الساعة الثامنة. أنا لم أنم ليومين متواصلين. كانت الأجواء مشحونة والكثير من الشهداء تم دفنهم. في الثالثة صباحاً سمعت من المقاومين أن هناك اجتياحاً في رفح. مقاتلو حماس لم يتوقعوا الهجوم. كان مفاجئاً. اجتاحوا في رفح مسافة ليست صغيرة. حدث اشتباك. خطف مقاتلو القسام جنوداً وهربوا داخل نفق. جن جنون إسرائيل. في الصباح كان المواطنون ينتظرون هدنة".
"في الثامنة صباحاً بدأت الأخبار تتحدث عن خطف جندي ومقتل العديد. الجيش الإسرائيلي بدأ بضرب رفح. كان يوماً مخيفاً والناس هربوا من منازلهم. الصواريخ كانت عشوائية. كل ثانية صاروخ، وكأنه المطر. أنا أسكن بعيداً عن مكان القصف في غرب رفح، والقصف في الشرق. كنت أرى الأحداث من أعلى منزلي. يا إلهي... الجحيم في الشرق. الناس هربوا إلى الغرب كيوم النكبة. الكل يهرب. وقفنا في الشوارع نعطيهم المياه ونطلب منهم الدخول إلى منازلنا".
ويواصل: "استشهد في اجتياح رفح المئات من المواطنين. الجيش الإسرائيلي كان يعتمد ضرب التجمعات أثناء الهروب. في ضربة واحدة استشهد سبعون شخصاً. عندما أمر من ذلك المكان أبكي. هنا أزهقت سبعون روحاً بصاروخ أطلقه حاقد".
"الجيش الإسرائيلي اعتقد أن الجنود المخطوفين داخل المستشفى المركزي (أبو يوسف النجار) فقصفوا بجوار المستشفى وطلبوا عبر الصليب الأحمر إخلاء المستشفى من المواطنين، هم يراقبوننا بالطائرات. الدبابات كانت قريبة من المستشفى. أخلى المستشفى وبقيت رفح بلا مستشفى. الكثير من المصابين والجرحى ماتوا بسبب عدم وجود مستشفى. كانت هناك عيادة خاصة بالنساء فتم استخدامها. طلبنا من أصحاب محلات الفاكهة والخضروات الثلاجات من أجل الجثث التي بدأت بالتعفن. كان المشهد مرعباً".
ويواصل معتصم: "شهدت رفح ضربة قاسية. ضربوا ثلاثة من قياديي المقاومة هم رائد العطار ومحمد أبو شمالة ومحمد برهوم في منزل. استهدف المنزل بتسعة صواريخ. المنزل يبعد عن منزلي كيلومتراً واحداً فقط. الصوت كان مخيفاً".
ويضيف: "كنت حينها أكتب على فيسبوك عن مجازر رفح. وكنت أتواصل مع الصحافيين في الضفة لأضعهم في الصورة. كانت رفح بلا إنترنت تقريباً إلا مخيمنا. الشبكة تأتينا من مدينة أخرى خارج رفح، وهذا ما جعلني أشعر بالمسؤولية عن كتابة كل ما يحدث في رفح. في بعض الأوقات كنت أكتب عن حدث ما وخلال الكتابة ينزل صاروخ بالقرب من المنزل، فأكتب عن الصاروخ قبل أن أنشر الحدث الأول".
"بعد قتل رائد العطار ومن معه عم الحزن في رفح. المدينة كلها كانت تبكي والنساء لبسوا الأسود، وكذلك الرجال. الجميع خرج في تشييعه. انتهت الحرب بعد ذلك بأيام، ولم نكن راضين عن الاتفاق. الخسائر مؤلمة والمقاتلون أنهكوا والمدنون كذلك أنهكوا. كلنا تعبنا، لكني أعتقد أن العديد من العرب خانونا. كانوا يراهنون على سقوط غزة ولكن لم تسقط غزة".
ويختم: "مر عام على الحرب الآن. إلى الآن لم نر أي تحسن. لم نر أي تطبيق للاتفاقيات. لا نعرف ماذا يحدث مع السياسين. في منتصف الحرب كنا نقول لا نريدها أن تتوقف. نريد حلاً نهائياً. لا نريد حصاراً. نريد ميناء ونريد مطاراً ونريد حرية، لكن بعد شهر. بدأنا نتذكر الأوجاع والأحزان والآلام والمفقودين والمنازل المدمرة. المشهد مؤلم. مناطق كاملة أبيدت".