نستعمل كلماتٍ في حياتنا المعاصرة، من دون أن نمنح أنفسنا الوقت الكافي لتأمّل مصدر ورودها إلينا، وكيف تحوّلت إلى جزء عفوي من معجمنا اللساني، سواء كان ذلك عبر حديث يومي أم عبر الكتابة والقراءة.
كلماتٌ وتعابير مثل "مُخرَجات الحوار" مثلاً أو "فضاء الرؤية" تبدو للوهلة الأولى واضحة المعنى وأليفة ولا تبعث على الغموض أو الشك. إلى ذلك يمكن أن نضيف تعابير كــ "استثمار أدبي" أو "تنافس" أو "مضاربة" أو "مشروع"، وهذه الأخيرة باتت تدخل على كل سياق تقريباً.
ما أود الإشارة إليه أن لكل هذه التعابير وغيرها جذوراً لغوية أصبحنا بعيدين عنها، فمنها ما هو قادم من لغة الرياضيات والمنطق، ومنها ما هو ذو أصل اقتصادي له علاقة بالعمل والإنتاج والسوق.
غير أننا في الآن نفسه، وربما هذا هو الأهم، لا يمكننا أن نتذكر أو نؤكد إذا ما كانت هذه التعابير قد أخذت محلَّ غيرها، وأنها بذلك أزاحت طريقة تفكير محددة واستبدلتها بأخرى من دون أن نشعر أننا جزءٌ خاضعٌ ومسلوب إزاء هذا التحول البطيء والصامت. ثمة ما حُذف وألغي وثمة ما حلَّ محله، وبين هاتين الحالتين، شيءٌ ما من طريقة تفكيرنا ونظرنا وتقييمنا للأمور قد تحول على نحو لا رجعة عنه.
مفردات الحياة الريفية مثلاً تبدو ذات ملموسية مباشرة، فيما ما يتداول في المدن يأخذ طابع السرعة والمفاهيم العملانية مما يجعله أبعد من مادة الحياة نفسها التي هي اللب من كل حديث. تفترض الرياضيات التجريد كذلك، وهي ذات منطق رصين وشمولي، غير أن الرصانة هنا ربما تسبب نوعاً من العمى إزاء ما هو مرئي وملموس لمس اليد، إذ أن لغة كتلك تبدو فوق الواقع الذي ربما تستند إليه. والحال يظهر على نحو أكثر مدعاة للحذر إذا ما انتقلنا لاستعمال مفردات مثل "مضاربة" أو "مشروع"، وهي مأخوذة من قاموس المال والأعمال.
يتذكر الشاعر والناقد الفرنسي برنار نويل في كتابة "الموجز في الإهانة" أن "المضاربة" في اللغة الفرنسية أساساً كانت تشير إلى مجال يتعلق بحيوية الفكر ونشاط الذهن، ويلمح إلى "مصيرها البائس" بعدما غدت على ما هي عليه الآن، محصورة باستعمالها البخيل والضيق والمخنوق.
لا أحد منا يتذكر متى فعلاً دخلت مفردة "مشروع" في طيات حديثنا اليومي. ربما جاءت من لغة الصحافة والأرقام، من نشرات الأخبار، أو من داخل أروقة الحياة الأكاديمية. لكن متى دخلت لغةَ الصحافة على هذا النحو الاحتكاري والشمولي!
كلمة "المشروع" بأصلها الإنكليزي تأتي على معاني الخطة والتصميم والدراسة والعرض والإعداد، وهي باتت عنوان كل نشاط معاصر، فيما جذرها العربي يفيد بالأصل معنى الحق والمباح...
اقــرأ أيضاً
كلماتٌ وتعابير مثل "مُخرَجات الحوار" مثلاً أو "فضاء الرؤية" تبدو للوهلة الأولى واضحة المعنى وأليفة ولا تبعث على الغموض أو الشك. إلى ذلك يمكن أن نضيف تعابير كــ "استثمار أدبي" أو "تنافس" أو "مضاربة" أو "مشروع"، وهذه الأخيرة باتت تدخل على كل سياق تقريباً.
ما أود الإشارة إليه أن لكل هذه التعابير وغيرها جذوراً لغوية أصبحنا بعيدين عنها، فمنها ما هو قادم من لغة الرياضيات والمنطق، ومنها ما هو ذو أصل اقتصادي له علاقة بالعمل والإنتاج والسوق.
غير أننا في الآن نفسه، وربما هذا هو الأهم، لا يمكننا أن نتذكر أو نؤكد إذا ما كانت هذه التعابير قد أخذت محلَّ غيرها، وأنها بذلك أزاحت طريقة تفكير محددة واستبدلتها بأخرى من دون أن نشعر أننا جزءٌ خاضعٌ ومسلوب إزاء هذا التحول البطيء والصامت. ثمة ما حُذف وألغي وثمة ما حلَّ محله، وبين هاتين الحالتين، شيءٌ ما من طريقة تفكيرنا ونظرنا وتقييمنا للأمور قد تحول على نحو لا رجعة عنه.
مفردات الحياة الريفية مثلاً تبدو ذات ملموسية مباشرة، فيما ما يتداول في المدن يأخذ طابع السرعة والمفاهيم العملانية مما يجعله أبعد من مادة الحياة نفسها التي هي اللب من كل حديث. تفترض الرياضيات التجريد كذلك، وهي ذات منطق رصين وشمولي، غير أن الرصانة هنا ربما تسبب نوعاً من العمى إزاء ما هو مرئي وملموس لمس اليد، إذ أن لغة كتلك تبدو فوق الواقع الذي ربما تستند إليه. والحال يظهر على نحو أكثر مدعاة للحذر إذا ما انتقلنا لاستعمال مفردات مثل "مضاربة" أو "مشروع"، وهي مأخوذة من قاموس المال والأعمال.
يتذكر الشاعر والناقد الفرنسي برنار نويل في كتابة "الموجز في الإهانة" أن "المضاربة" في اللغة الفرنسية أساساً كانت تشير إلى مجال يتعلق بحيوية الفكر ونشاط الذهن، ويلمح إلى "مصيرها البائس" بعدما غدت على ما هي عليه الآن، محصورة باستعمالها البخيل والضيق والمخنوق.
لا أحد منا يتذكر متى فعلاً دخلت مفردة "مشروع" في طيات حديثنا اليومي. ربما جاءت من لغة الصحافة والأرقام، من نشرات الأخبار، أو من داخل أروقة الحياة الأكاديمية. لكن متى دخلت لغةَ الصحافة على هذا النحو الاحتكاري والشمولي!
كلمة "المشروع" بأصلها الإنكليزي تأتي على معاني الخطة والتصميم والدراسة والعرض والإعداد، وهي باتت عنوان كل نشاط معاصر، فيما جذرها العربي يفيد بالأصل معنى الحق والمباح...