تاريخ يكتب وآخر يحكى، وما بينهما تتشعب "مفاهيم التدريس" التي من شأنها تحويل "المناهج" من صفحات بين طيات الكتب إلى "ثقافة" يمكن من خلالها بناء المعرفة لدى الأجيال. هكذا يصف بعضهم "المناهج التاريخية" التي بات ينظر إليها كعبء على الطلبة في فصولهم الدراسية، كما يقيمها بعضهم، فيما ينظر لها آخرون على أنها نقطة من شأنها أن تؤسس لانطلاقة وعي بالمستقبل، إذا ما أعيدت صياغتها بقالب يبتعد عن "السطحية".
إلا أن الدكتور موسى عليان، أستاذ الإعلام المجتمعي في جامعة "ايلتشي" الإسبانية، يعتبرها ميزة باتت تلاصق إعادة صياغة مناهج التاريخ لما يلائم الثقافة المجتمعية التي تتأثر بالواقع السياسي.
لم يكن فتح هذا الملف المرتبط بالصورة النمطية للإنسانية سهلاً، فحقيقة التاريخ تعتبرها الثقافات العربية من "المسلمات"، والتي لا يمكن التشكيك في من يكتبه، إلا أن حديث "العربي الجديد" للدكتور عليان أثار العديد من التساؤلات، لا سيما بحكم تجربته ما بين المجتمعات العربية ونظيرتها الغربية.
يقول عليان: "التاريخ يجب أن ينقل بأمانة وصدق، لا سيما أنه يعتبر رافداً لتعزيز هوية وشخصية المجتمعات، إلا أن التجارب تكشف كم الأخطاء التي تعتري مناهجنا التعليمية التي تستعرض التاريخ، لا سيما تلك الجزئيات التي ترتبط بالسياسة، وهو ما يجعل المناهج من وثائق يجب تناقلها إلى مضامين موجهة سياسياً".
عوامل عدة يراها الدكتور عليان تؤثر على شكل ومضمون التاريخ بين المجمتعات، على الرغم من أن الوقائع التاريخية واحدة، إذ يرى أن هناك محاولات مقصودة في "عكس المعنى التاريخي المنقول بما يتناغم مع من يدرسه".
كما أن "الثقافة الشعبية والجو السياسي، والمعتقد الاجتماعي تؤدي دوراً في تقبل حقيقة التاريخ بعيوبه، وهو ما يجعل بعض المجتمعات لا تتقبل التاريخ المرتبط بالحقائق السلبية، ما يشكل دافعاً إما لطمس التاريخ أو تزويره، أو إعادة صياغته بما يبرز الإيجابيات ويلغي السلبيات".
تعدد المشارب
ما يطرحة الدكتور عليان، يرى فيه ممدوح بري، الأستاذ والباحث في التاريخ، صواباً إذا ما نظر إليه بشكل مجرد، إلا أنه يرى أن "التاريخ يمثل روايات متعددة المشارب، فالفقيه يكتب من منطلق فقهي دعوي مثالي، والمعتزلي يكتب التاريخ من منطلق فكري فلسفي، والسلطوي يكتب ليتناسب من سياسات دولته، وهكذا باقي المشارب".
إلا أن هذا التعدد في كتابة التاريخ، وفقاً لما يطرحة بري لـ "العربي الجديد"، يجب أن يتصف بالموضوعية، ويبتعد عن المثاليات، فلا خجل من بعض ما يعتري تاريخنا وتراجعنا الحضاري، حتى تشكل لنا نقطة انطلاق إلى الأمام.
ويعرج بري في حديثه إلى أهمية تدريس التاريخ، إذ يرى أنه لا بد أن يكون "مرتبطاً مع باقي العلوم الإنسانية والطبيعية، وفهم التاريخ بشكل عقلاني مستنير يمنحنا قدر تحرير عقولنا وفتح مناخات التفكير، ويسهم في مزيد من النهضة".
تدريس التاريخ يجب أن يكون وفق "منظور فلسفي عقلي، إلى جانب سرد قصصي كامل غير مجزوء الأطراف"، كما يراه بري شرطا في تحقيق الهدف من تعزيزه في مناهج التعليم.
اختلاف رواية التاريخ
الأستاذ عبد العزيز عرار، مؤرخ، ومشرف لمناهج التاريخ في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، يرى أن "لكل دولة فلسفة في كتابة التاريخ، وآليات كتابته تتناغم وطبيعة نظرتها للوقائع مقارنة بالتاريخ المعاصر، وهذا كان واضحا في المراكز العالمية التي تقوم على صياغة التاريخ".
ويرى عرار في حديثه لـ"العربي الجديد" أن هناك نظرتين تقوم عليهما عملية تدريس التاريخ؛ الأولى تقوم على سرد الرواية دون الخوض في التحليل، حيث تقدم المناهج للطلبة التاريخ بشكل سردي فقط دون تدخل في أي تفسير أو تحليل".
ويشير إلى أن أصحاب هذه النظرية يدعمون مواقفهم في محاولة "الإبقاء على الوحدة وعدم التطرق إلى نقاط الخلاف، أو المثبطات والمحبطات في سيرة التاريخ، وهو ما يجعل التاريخ جامدا".
أما النظرية الأخرى، بحسب عرار، فتتمثل في المناهج التي تقوم على سرد التاريخ إلى جانب التحليل والنقد، وهذه تدفع باتجاه عملية الربط ما بين الوقائع التاريخية والظروف التي حدثت فيها، وربطها بالتاريخ المعاصر، إلى جانب نقد الرواية بشكل منطقي.
ويمكن فصل المناهج عن القائمين عليها، كما يرى عرار، إذ إن للقائمين على المناهج دوراً مهماً في إعادة الصياغة والتطوير التي تجري بشكل مستمر عبر العملية التعليمية التي تمر بمراحل مختلفة.
ويشير عرار إلى أن هناك أسساً ومعايير يجب أن ينطلق منها القائمون على وضع المناهج التاريخية يتمثل أولها في تعزيز الدور الوطني والقومي والإنساني العالمي وعدم ارتباط ذلك بمحددات الواقع السياسي.
كذلك يعتبر "اقتصار التاريخ على جزئيات وبقع جغرافية محددة، يمكن أن يشكل حالة من
الاجتزاء المعرفي التي من شأنها عدم حصول الطلبة على الجرعة المتكاملة".
عقبات عدة
لا تقتصر رواية التاريخ وتدريسه على توفير المناهج بحد ذاته فقط، إذ إن هناك عوائق وعقبات يمكن أن ينعكس تأثيرها على المناهج التاريخية.
ويرى عرار أن من بين هذه العوائق "عدم وجود التنوع المعرفي والتاريخي والاقتصار على مرجعيات تاريخية في صياغة المناهج وعدم الشمولية"، إلى جانب "تكرار في المضمون التاريخي ما بين المناهج المختلفة".
كما أن تقديم "المعلومة الخاطئة في رواية التاريخ من شأنها أن تنعكس على نظرة الطلبة أنفسهم للتاريخ المرتبط بهم، وهو ما يعني إما تخليد وقائع، أو نسيان أخرى، وهو ما يمثل تشويهاً في الرواية التاريخية".
وإلى جانب ذلك، يرى عرار أن للأسلوب والطريقة في تدريس التاريخ دوراً مهماً، إذ إن هناك حاجة لربط الأحداث المعاصرة بالماضي وإيجاد روح التحليل والنقد لدى الطالب حتى لا يكون التدريس بشكل جامد".
ولاجتياز العقبات وتحقيق الهدف من دراسة التاريخ، يرى ممدوح بري ضرورة عدم "الانكفاء على شواهد تاريخية من مصدر واحد بما يعزز حالة الاستسلام للرواية كما يكتبها أصحابها وبما يتوافق مع الظروف التي كتبت بها".
ويشير بري إلى أن توسيع المدارك التاريخية في المناهج التعليمية، وتعزيز حالة النقد والنقاش تفتح المجال لإمكانات الاجتهاد البحثي لدى الطلبة ما يجعل المناهج التاريخية رافداً لقراءة التاريخ إلى جانب روافد أخرى يمكن أن يطلع عليها الطلبة.