مهرجان الدم
ما الذي تغيَّر فينا؟ وما الذي تغيَّر علينا؟ تتساءل في نفسك وتسأل من حولك، وأنت ترى مهرجان الدم حولك، في يوم عيد الأضحى، وما تمَّ تداولُه، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لمشاهد ذبح الخراف والعجول والأبقار، وابتهاج الناس بمنظر الذبح، وتهليلهم والحيوانات تتخبّط في دمائها، وتصارع الموت. ولأن الشيء بضدِّه يُعرف؛ يمرّر ذلك كله شريطًا قصيرًا لذكرياتٍ غابرة، فذلك الرجل المُسنّ العائد من صلاة العيد، في المسجد، يحفر حفرة، على وجه السرعة، ويوجِّه رأس خروفه السمين صوب القبلة، ويردِّد بصوتٍ لا يكاد يُسمع، البسملة، ثم الشهادتين، ثم يستلُّ سكِّينه، وأنت لا تعرف أين كان يخفيها. ولكنه في وقت لاحق يحذِّرك بأن الحيوان يجب ألا يرى آلة الذبح؛ فهو يشعر ويتألَّم. وخلال لحظات قليلة من الصمت والتحفُّز، تسيل الدماء في الحفرة، ويردمها الرجل المسنّ بطرف حذائه الجلدي الضخم، بخفَّةٍ، ويتلفَّت حوله؛ ليتأكَّد أن أحدًا من الصِّغار لم يُصَب بالجزع، فيما يكون الصِّغار قد أخفَوْا وجوههم، وحاولت الأمُّ أن تشاغلهم؛ حتى لا يروا مشهد الذبح المؤلم، وتفلح في ذلك؛ لأن الصغار أنفسهم لا يرغبون في رؤية الخروف، في لحظاته الأخيرة من الحياة.
وتغيّرت الحياة، وتقلَّب كلُّ شيء حولنا، وصغار الأمس لم يعودوا كذلك، فقد فتحوا أعينهم على مشاهد العنف، في كلِّ مكان، وفقدوا معاني الأمان والرأفة، وزُرعت القسوة في قلوبهم؛ فخرجوا قبل الكبار إلى مهرجانات ذبح الأضاحي، في الشوارع والأزقَّة، ولطَّخوا وجوههم، وأكفَّهُم، وملابسهم بالدماء، وفاحت منهم رائحتُها، ولم يتبقَّ سوى أن تسيل الدماء من أفواههم، وتبرز لهم أنياب، مثل مصَّاصي الدماء في أفلام الرُّعْب والخيال. وتسابق الصِّغار مع الكبار، في التنكيل بالذبائح، وابتكار طرق الذبح الأكثر دموية وبشاعة؛ حتى تعالت أصوات الإنكار من أصحاب العقول الرشيدة، ولكن المبتهجين بمهرجان الذبح العظيم تصدّروا المشهد، وبات الذبح متعة، وتلوَّث الجوُّ المحيط بالدماء؛ فخرًا للقبلية، وانتشاء للعشائرية.
تعاود الكَرَّة، وتتساءل: ما الذي تغيَّر؟ وما الذي أدّى إلى تحويل الصغار اللطفاء الأبرياء عاشقين مناظر الدم والتنكيل والتعذيب؟ وأنت تقلِّب إحدى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي؛ فتصطبغ قرنيَّتا عينيك باللون الأحمر؛ لكثرة ما التصق بها من لون الدم، وتكتشف سببًا بسيطًا لهذه الجموع التي خرجت، وهي تشهر كلَّ ما تملك؛ من أدوات الذبح، وتتباهى بما هي مُقْدِمةٌ عليه، وهو أنَّ الهُويَّة الوطنية الجمعية قد تراجعت؛ ما أدّى إلى تغلُّب هوية العائلة وازدياده، بديلا طبيعيا عن الوطن، وسلطة القانون، فهم يجتمعون ويتباهون، ويحتمون ببعضهم؛ لفقدانهم معنى الأمان الحقيقي.
لقد خرجنا اليوم بمشاهد مؤذية، في واحدةٍ من شعائر الإسلام، ولكننا خرجنا عنها، وعن غايتها وأهدافها وأرسلنا إلى العالم صورة يسهل على المُغرضين توظيفها؛ أن العرب دمويُّون؛ حتى النخاع، ولا يجيدون التعامل مع الحيوانات التي سيلتهمون لحومها، فكيف سوف يتعاملون مع البشر، ويعقدون اتفاقيات السلام؟
تكتشف، وأنت تتابع مشاهد الذبح المختلفة، خلال أيام العيد، أننا قد وصلنا إلى القاع، وأنّ الخروج منه بات صعبًا؛ لأنه حصيلة سنواتٍ من التعصُّب واتِّباع العادات والتقاليد، وتحويلنا العبادة إلى عادة. ومع كلِّ التغيُّرات السياسية التي أحاطت بنا في السنوات الأخيرة، أصبح الوعي الثقافي المجتمعي منخفضًا؛ لأنه يرتبط، للأسف، بانحدار الوضع الاقتصادي لهذه الشعوب التي نخر الفقر في أوصالها مع تعاظُم سلطة رأس المال، على حساب المسحوقين الذين أصبح لهم يوم الذبح العظيم يومًا لتفجير الغضب المكبوت في داخلهم؛ فأشهروا أسلحتهم، وأطلقوا سراح الوحش فيهم تجاه حيوان ضعيف.
في كتابه "حيونة الانسان"، كتب ممدوح عدوان: "المقموعون تاريخيًّا، حين يجدون متنفَّسًا، ويصلون إلى سلطة ما، فإنهم يريدون أن ينتقموا داخل أنفسهم، من كلِّ مشاعر الخوف، والتذلُّل التي عرفوها، لذلك يصبحون أشدَّ قسوة من مضطهديهم، ويمارسون شحنات من أحلام اليقظة المكبوتة، والانتقام من الذات". ولذلك، لا عجب أن نرى مشاهد سلخ قطّة، وشيِّها حيَّة، أو فقء عيني طائر جميل، يتلذَّذ بذلك مراهق أخرق، أو طفل صغير.