خلال انعقاد ورشة دولية للترجمة، نظمها مركز الأدب السلوفيني منذ وقت قريب، تبادل ستة شعراء ترجمة قصائد بعضهم بعضاً إلى ست لغات. أكثر ما لفت نظري تجربة وقصائد الشاعرة الصينية مينغ دي، وطرائق استخدامها للأساطير الشخصية، والحوار بين لغتين في قصائدها.
كان من المثير مراقبة كيف تتعامل شاعرة صينية تعيش في أميركا مع قضايا الهوية وتمازج بينها وبين الفولكلور القديم، وكيف تجعل جذورها الموروثة تزهر في بلد أجنبي وتتخذ شكل شعر بصري.
تناول حديثي مع "مينغ"، بالإضافة إلى هذا، تجربة الحياة بين لغتين وثقافتين، والطرق التي سلكها الشعر الصيني ليكون عنصر تأثير في الشعر الأميركي، والغربي بعامة، وأثر الجغرافية على تجارب الشعراء، ومفهوم القصائد البصرية الذي يختلف عن مفهوم القصائد "الملموسة"، وأخيراً بعض من لطائف ودقائق تميزت بها قصائد مينغ دي مستمدة من خصائص لغوية صينية يصعب نقلها إلى لغات أخرى.
في المسار بين لغتين وثقافتين، والصعوبات التي تواجه أي شاعر أو مترجم للشعر، من المدهش أن تقول مينغ دي إنها بدأت تفقد الإحساس بالاختلاف بين الصينية والإنكليزية بعد سنوات من التردد بينهما جيئة وذهاباً. هي تكتب بهما، ولكن مصدر الإلهام ظلّ اللغة الصينية، وليس الإنكليزية التي تتعامل معها كأداة.
أما عن الترجمة فإن ما يضيع هو لوينات ألسنية وإشارات مرجعية ثقافية، وهنا لا بد للمترجم أن يلجأ إلى خيارات ووسائل بديلة.
ومن الطبيعي أن تنشأ في هذا المسار علاقة بين الشعر الصيني والشعر الأميركي المعاصر، وألا تظلّ العلاقة من طرف واحد، بل يتخللها إثراء متبادل. وهذا هو ما حدث حقيقة فأوضحت "مينغ" أن هذه العلاقة بدأت، قبل ترجمات إزرا باوند، إلا أن ترجماته للشعر الصيني الكلاسيكي هي التي جعلت الشعر الصيني شهيراً في العالم الناطق بالإنكليزية، وظهرت علائم تأثيره في كتابات عدد من الأجيال، في شعر "التصويريين" و"الحداثيين" وشعر اتجاهات أخرى. ويشبه هذا ما حدث في العلاقة بإيطاليا، حين ترجم الشعر الصيني أولا إلى الإيطالية، ومنها انتشرت ترجماته في أوروبا.
وتلمح "مينغ" إلى أن "السونيتة" الإيطالية ذات الأربعة عشر سطراً نشأت بتأثير الشعر الآسيوي، لأن الصيني لان لي بو (701-762) كتب الكثير من القصائد ذات الأربعة عشر سطراً.
لم تكن الشاعرة صغيرة السن حين انتقلت إلى أميركا، من بكين إلى بوسطن ثم لتستقر في كاليفورنيا أخيراً. جاء الانتقال بعد إنهاء دراستها الجامعية في الصين، وقبل ذلك كانت قد بدأت كتابة الشعر وهي في المرحلة الثانوية في قريتها على ضفاف نهر "اليانغتسي".
بدأت بالأشكال الكلاسيكية، ثم انتقلت، بتأثير من الأدب الأوروبي المترجم، إلى الشعر الحر. وحتى الآن، ورغم أنها تكتب بالإنكليزية أحياناً، ما تزال تعتقد أنها ليست شاعرة مزدوجة اللغة، فالصينية أكثر رهافة وتلهمها عاطفياً وبصرياً. وأتاحت لها اللغة الصينية، وهي تكتب قصائدها البصرية، أن تتلاعب بالكلمات ذات الأشكال المتشابهة، وبالصوت، وهي تستكشف معاني وترابطات أعمق.
وتجد نفسها متفقة مع الإيطالي إتيليو بيرتولوتشي صاحب مقولة "إن نبتة تستزرع في أرض أخرى يمكن أن تعطي أزهاراً أجمل"، وترى أنها لو عادت إلى العيش في الصين، فستكون مدرّسة مضجِرة!
هي تعود إلى وطنها كل عام، ولكن كأجنبية مراقبة. وما حدث هو أنها لم تصبح على وعي بثقافة الصين القديمة إلا بعد أن أصبحت غريبة تماماً. وبدا كل شيء، بعد أن غادرت الصين، أكثر نضارة، بما في ذلك نظام الكتابة. وجعلها التردد جيئة وذهاباً غير مستقرة فنياً، وأشعرها بالعزلة البالغة في أميركا.
وفي ضوء ترددها هذا تلاحظ اختلافات بين تجارب شعراء صينيين يعيشون في الصين وشعراء صينيين يعيشون في الخارج، ومع ذلك كما تقول، لا يصنع الموقع الجغرافي الفرق بين تجارب الشعراء، ما يصنعه هو الرغبة في ابتكار أشكال شعرية ومعجم شعري. وفي هذا لدى شعراء الداخل والخارج الأهداف ذاتها: تجربة أشياء جديدة باستمرار، أو المضي إلى ما هو أبعد من الراهن، أو تجديد الأشياء القديمة. صحيح أن شعراء الخارج أكثر تعرضاً لتأثير الأدب الغربي، ولكنهم يبذلون جهداً مضاعفاً للحفاظ على الموروثات القديمة.
ومن موقعها هذا ترى في نفسها حامية للغة الصينية كما لو أنها لغة آخذة في الانقراض بين الإنكليزية والإسبانية في كاليفورنيا، وتحمي هويتها كشاعرة صينية، ولا تقول إنها شاعرة صينية/أميركية أبداً. هي ترفض الانصهار، لأنها تعرف أن 55 أقلية قومية في الصين انصهرت وفقدت لغاتها.
وبمناسبة مشاركتها في الورشة السلوفينية التي تمت خلالها ترجمت قصائد لها مثل "ورقة بحر" و "وكوكبة دورق الماء" و "كوكبة الدلو" و "زورق"، ألقت الشاعرة ضوءاً على قصائدها هذه، فهي قصائد غير منشورة، لأنها لم تجد مكاناً لنشر قصائد بصرية من هذا النوع، ولكن ما دفعها إلى العناية بهذا النوع من القصائد ظروف متعددة، أولها استخدام إزرا باوند لحروف الكتابة التصويرية الصينية في مجموعته الشعرية "أناشيد"، وثانيها تفاعلها مع الفنانين التشكيليين البصريين خلال إقامتها في مركز محترف فيرمونت، وثالثها أشجار عيد ميلاد وصلتها من صديق ألماني، ورابعها أخيلة تراودها موضوعها "الأيدي المتدلية من الأشجار" في قصائد "ليو شاو".
إلا أن شعرها البصري، كما تؤكد، ليس هو ذاته الشعر الخمسيني" الملموس" في البرازيل، أو البصري الذي شاع في فرنسا على يد أوائل الحداثيين. ولكنها لا تنكر أن قصائدها البصرية هي أيضاً استمرار للتراث البرازيلي والفرنسي؛ الفرق يكمن في أنها لا تعيد توزيع كلمات قصائدها وتحولها إلى أشكال كما يفعلون، بل تكوّن صورة من واحدة أو اثنتين من كلمات الكتابة الصينية بطرق مختلفة، كرد على الكلمة أو إعادة إنشاء لها.
ولأن انشغالها بالكوكبات النجمة بدا واضحاً في قصائدها البصرية هذه، كان لا بد من إيضاح وتعليل، وجاء التعليل في قولها إنها تفكر دائماً أن أمها المتوفاة ذهبت إلى كوكبة نجمية، وجاءها هذا الشعور لأنها لم تشهد وفاتها عياناً، بل وصلها هاتفياً.
وآنذاك لم تستطع الحديث عن أمها لمدة 5 سنوات، وبعد مرور 15 سنة على وفاتها بدأت تتحدث معها في الشعر. والطريقة الوحيدة لجعلها ترى قصائدها هي أن تجعل كلماتها تمدّ أطرافها، أيديها وأقدامها، وبذلك تستطيع أمها رؤيتها من مكانها في السماء، وهو ما نلاحظه في هذه السطور:
أُمدّدُ كلماتي مثل أطراف جسد
كي تلحظي وجودي.. ربما
في عيونك يا أمي كل الكلمات زحف
نمل من بقع حبر لم تجف بعد
نمالي تحتشد وترقص، وهكذا
ستريني في دوامة الحشرات هذه.
__________
زوجة تاجر نهري
مينغ دي (Miing Di) هو الاسم الأدبي للشاعرة الصينية مندي شانغ التي ولدت ونشأت في الصين، وتعيش حالياً في مدينة لوس أنجلوس في الولايات المتحدة الأميركية. نشرت مينغ دي ست مجموعات شعرية باللغة الصينية، وأربع مجموعات بلغات أخرى، إلى جانب ترجمتها وتحريرها أربعة كتب مختارات من الشعر الصيني إلى الإنكليزية. من بين أعمالها "زوجة تاجر نهري" بالإنكليزية، و"قصة عائلة" بالفرنسية.
** ترجمة عن الإنكليزية محمد الأسعد