ناجي العلي وثوب عمّتي
عندما تقرّر الاحتفاظ بقطعٍ قديمة في خزانةٍ معتمةٍ في بيتك، فسوف تكتشف لاحقًا أن قاسما مشتركا يجمعها. ويبدو أن اكتشاف العلاقة بين الأشياء يأتي متأخِّرًا، وربما عندما تعود الذكريات، بعد سنوات طوال، تكتشف أن هناك علاقة ما، فعلًا، فكأنِّي على موعدٍ مع شريطٍ يفتح، مثل خطِّ قطار، يمر به القطار سريعًا، ثم تغلق المحطّة، وهو ما يعرف بـ "المزلقان". وكنَّا ننتظر أمامه، مدة طويلة، تحرقنا أشعة الشمس، ونحن مكدَّسون في عربة نقل عامة، على أحد خطوط نقل خط إمبابة - القاهرة في مصر.
تفتح الإشارة؛ فتنساب الذكريات، ثم تغلق، وتستمر حياتك، داخل العربة الضيقة التي تكدَّس فيها ركَّابٌ من كلِّ مكان، ثم ينسابون، كلٌّ إلى وجهته. وهكذا، ما إن أفتح الخزانة المعتمة، حتى تتسلَّل إلى أنفي رائحة ثوب عمّتي، رحمها الله، وهو ثوبٌ فلسطيني مطرَّز، بدأ البِلى يزحف إلى قماشه لقدمه، ولكن خيوط التطريز المختلفة الألوان تمسك به، وتجعله ثقيل الوزن؛ ما يدفعني إلى التساؤل، كلَّ مرة: كيف كانت جدّاتنا يتحمَّلن ارتداءه فوق أجسادهن؟!
في زيارة لبيت عمّتي الراحلة، كانت سيارة أبي الصغيرة تنهب الطريق الزراعي، حين توقف لشراء صحيفة القدس من البائع العجوز، وسط تعليقات أمي المعترضة "خسارة ثمن الجريدة، كلَّ يوم نفس الأخبار". ولكني تلقفت الجريدة، من يد البائع، وفتحت صفحتها الأولى؛ لأقرأ على مسامعها خبر اغتيال ناجي العلي، في لندن، وأنه يصارع الموت في أحد مستشفياتها. صمتت أمي، ولم تعلِّق، وعلَّق أبي بكلمة واحدة: صادوه .. فيما وجمتُ، وأنا أتذكّر رسومات ناجي وصورة حنظلة، الفتى الذي يدير ظهره للعالم، ويعقد ذراعيه، خلف ظهره، وقد أحببت هذه الحركة منه؛ لأنها حركة أبي في أثناء سيره بتؤدة، ولكنها لدى حنظلة تحمل معاني كثيرة، سُئل عنها ناجي، في أكثر من لقاء، وقال إنه قد قام " بتكتيف" يدي الفتى حنظلة ابن العاشرة؛ دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأميركية، في المنطقة، فحنظلة ثائر، وليس مطبِّعا، وكانت بداية "تكتيف" حنظلة في رسومات ناجي، بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973.
لثوب عمّتي رموز ودلالات، وهو يرقد إلى جوار "تعليقة فضية" تجسِّم حنظلة، كانت تنزلق في سلسلة، وأعلقها في صدري، في تلك المرحلة من عمري التي كنت أرى فيها نفسي ثائرة، ومعترضةً على كل شيء. حصلت عليها بصعوبة، وقتها؛ لأن الاحتلال كان يمنع بيع تلك المجسّمات التي تعلَّق على صدور الفتيات والشباب. وما إن بدأت أحداث انتفاضة الحجارة، في العام 1987، وتقريبا بعد اغتيال ناجي العلي بشهور قليلة، حتى طلب مني أبي أن أتخلص منها؛ لكي لا تتسبّب لأهل البيت بمصيبة؛ فالاحتفاظ بمعلَّقات وشعارات عن القضية الفلسطينية تعتبر جريمةً يعاقَب عليها ربُّ البيت، خصوصًا خلال مداهمة طارئة لجنود الاحتلال البيوت الآمنة، إبَّان اشتعال انتفاضة الحجارة.
وبقيتْ تلك "التعليقة" مع ثوب عمّتي المطرَّز، والذي يذكِّرني بصبرها أمّا فلسطينية، تحمّلتْ كلَّ شيء؛ من أجل تربية أولادها الكثُر، وعاشت شظف العيش والمعاناة، في مخيَّم اللجوء، في بيتٍ من القرميد، وقبل ذلك في خيمة إبَّان النكبة، وربما كان ثوب عمَّتي المهترئ وسيلة التواصل الاجتماعي غير المعلنة بينها وبين زوجها، فكلّما طفح بها الكيل، وذهبت غاضبةً إلى خيمة أهلها، أرسل زوجها مَن يتتبّع أحوالها؛ فيخبرونه أنها ترتدي الثوب الفلّاحي المطرَّز القديم البالي المخصص لأشغال البيت. ولا تهتم بنظافته، ولا بهندام نفسها، بتصفيف جدائلها، وتمسيد مقدِّمة رأسها؛ فيعرف أنها حزينة على فراقه؛ فيرسل من يعيدها إلى خيمتها، وظِل زوجها.
مات ناجي العلي مقتولًا، وبقيتْ تلك الأيقونة، وهي حنظلة، وماتت عمّتي، وظلّ ثوبها، وتَصادف أن نحتفل بذكرى اغتيال ناجي العلي، مع يوم الزِّي الفلسطيني؛ فألتفتُ إلى خزانة معتمة، تلك الخزانة التي تحكي حكايات كفاح ونضال اختصرتْها عمَّتي بثوبٍ طرَّزته بالصبر والدموع؛ فتهالك ووصل لخزانة جدّتي؛ ثم لخزانتي، واختصرها ناجي بأربعين ألف رسمة ظلّت باقية، حتى اليوم.