رأى البعض، في العقود الأخيرة، في القومية العربية ظاهرة مستبدة، وغدا مفهوم "العروبة" مستبعداً، يثير الحفيظة والتحفّظ، يستدعي استبداداً جوهرياً، لا تقبل به "العقول الديمقراطية". وكذلك حال "الإسلام العروبي" الذي يشتق، ولو نظرياً، من أصل عربي لا يؤمن بالتسامح والاعتراف بالآخر. ولعل هذا التعميم، الذي هو مزيج من التلفيق والأحكام الجائرة الجاهزة، هو الذي استولد تعابير ملائمة له مثل: "دول المشرق، الشرق الأوسط، والشرق الأوسط الجديد،"..... وكل ما يحاذر كلمات العرب والعروبة والقومية العربية.
وواقع الأمر أن حال القومية العربية، وهي ظاهرة حديثة، من حال القوميات الأخرى، التي واجهت الاستعمار، مثل القوميتين الهندية والصينية، وإن كانت معطيات التاريخ قد قذفت بها إلى مصير مختلف. فقد أخذت هذه القومية، خلال كفاح العرب ضد الهيمنة العثمانية والاستعمار الأوروبي، بشكل "القومية الثقافية"، المستندة إلى مرجع أساسي مثّلته اللغة العربية، من حيث هي تعبير عن انتماء ثقافي وديني، ذلك أن القرآن الكريم جاء عربياً.
ظهرت اللغة العربية، في شرط غياب الدولة العربية المستقلة، كمجلى للروح القومية، بما ساوى بين اللغة والقومية، في انتظار تحرّر العرب من السيطرة الاستعمارية والوصول إلى "دولة قومية"، توحّد العرب وتعطيهم مكاناً لائقاً بين الأمم. لم يكن في ذلك الطموح، الذي بدأ يتبلور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ما هو مستبد ولا ما يشير إلى الاستبداد، إذ كان صعود القوميات ظاهرة كونية في القرنين الثامن والتاسع عشر. ولهذا رفع المسلم عبد الرحمن الكواكبي شعار العروبة ودافع عنها، بعد سنوات قليلة، نجيب عازوري في كتابه "يقظة الأمة العربية" ـ 1906. وكان المسيحيون العرب، واللبنانيون منهم بخاصة، قد بذلوا جهداً جليلاً في إحياء اللغة العربية، وهو ما قام به أحمد فارس الشدياق وناصيف اليازجي والمعلّم بطرس البستاني.
وبما أنّ اللغة تحتاج إلى تجسيد سياسي، دعا ساطع الحصري إلى دولة قومية عربية، متأثراً بأفكار الألماني هيردر، معتبراً اللغة ضمان القومية، والدولة القومية ضمان عودة العرب إلى مجدهم القديم. كان الحصري علمانياً في تصوره اللغوي والقومي وربط قسطنطين زريق، لاحقاً، وهو المؤمن الحاسم بالقومية العربية، بين القومية والديمقراطية والعلمانية والحداثة الاجتماعية. كما لو كانت القومية العربية لن تحقق أهدافها إلا إذا أخذت بما تأخذ به الأمم الديمقراطية الأخرى.
لم يكن في النظر القومي العربي، الذي تشكّل بين منتصف القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ملامح استبدادية أو إشارات إلى طغيان محتمل. كان جزءاً من "روح العصر"، إذ جمع الشعوب المخضَعَة تطلّعُ الاستقلال، وكان وجهاً من وجوه نزوعات قومية كونية الأبعاد، لها ما يشبها في الصين واليابان وألمانيا، وكان له طموحه المشروع في دولة تضم العرب جميعاً. ولم يكن في ذلك النظر، آنذاك، ما يشير إلى "أحزاب عقائدية" وإلى انقلابات عسكرية وحكومات أحادية المرجع،.... وإذا كانت القومية العربية قد بدأت قومية ـ ثقافية، فقد كان المدافعون عنها مثقفين يؤمنون بقوة الأفكار، اعتقدوا أن من حق شعوبهم أن تتمتع بحقوق الشعوب الأخرى.
غير أن وصول جماعات "مسيّسة" إلى الحكم، بعد مجيء الاستقلال الوطني، بعد الحرب العالمية الثانية 1945 ما لبث أن خلق صورة أخرى "للفكرة القومية"، لا تنظر إلى الحرية بارتياح كبير. ولم تكن الأنظمة المستبدة، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ظاهرة خاصة بالعالم العربي، كان هناك "جنرالات أمريكا اللاتينية"، وحكومات مماثلة في إفريقيا وغيرها. وما دعي بـ"أنظمة الخوف" لم يكن ظاهرة خاصة بالعالم العربي، بل إن هذه الأنظمة حظيت بأكثر من مباركة من "العالم الحر وأسياده"، حتى قال بعضهم "إن الديمقراطية تتعارض مع الخصوصية العربية".
وبداهة فإن الجديد لم يصدر عن "استبداد القومية العربية" المفترض، إنما صدر عن مصالح ومستجدات عالمية، تضمنت النفط والموقع الاستراتيجي لما دعي بـ"المشرق"، والرفض الحاسم لوحدة العرب وتوحّدهم، وأمان دولة إسرائيل، قلعة ديمقراطية. وتضمنت أيضاً القاعدة القائلة: "يحق للقوي أن يخلق وأن يمحو من دون مساءلة" وهو ما يستدعي اتفاقية سايكس ـ بيكو، التي أعادت خلق الجغرافيا العربية ـ قبل قرن من الزمن، ويستعد المرتبطون بها إلى إعادة خلقها من جديد هذه الأيام، مطمئنين إلى شعار "الاستبداد العربي"، الذي لا يمكن إصلاحه ذلك أن "الإنسان العربي يستعذب الدم ويستدعيه".
يدفع العرب اليوم ثمن حلمهم بدولة عربية موحدة مستقلة، اختصرها أعداء العرب في تعبير مصنوع هو "العروبة المستبدة".
(كاتب وناقد فلسطيني)
اقــرأ أيضاً
وواقع الأمر أن حال القومية العربية، وهي ظاهرة حديثة، من حال القوميات الأخرى، التي واجهت الاستعمار، مثل القوميتين الهندية والصينية، وإن كانت معطيات التاريخ قد قذفت بها إلى مصير مختلف. فقد أخذت هذه القومية، خلال كفاح العرب ضد الهيمنة العثمانية والاستعمار الأوروبي، بشكل "القومية الثقافية"، المستندة إلى مرجع أساسي مثّلته اللغة العربية، من حيث هي تعبير عن انتماء ثقافي وديني، ذلك أن القرآن الكريم جاء عربياً.
ظهرت اللغة العربية، في شرط غياب الدولة العربية المستقلة، كمجلى للروح القومية، بما ساوى بين اللغة والقومية، في انتظار تحرّر العرب من السيطرة الاستعمارية والوصول إلى "دولة قومية"، توحّد العرب وتعطيهم مكاناً لائقاً بين الأمم. لم يكن في ذلك الطموح، الذي بدأ يتبلور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ما هو مستبد ولا ما يشير إلى الاستبداد، إذ كان صعود القوميات ظاهرة كونية في القرنين الثامن والتاسع عشر. ولهذا رفع المسلم عبد الرحمن الكواكبي شعار العروبة ودافع عنها، بعد سنوات قليلة، نجيب عازوري في كتابه "يقظة الأمة العربية" ـ 1906. وكان المسيحيون العرب، واللبنانيون منهم بخاصة، قد بذلوا جهداً جليلاً في إحياء اللغة العربية، وهو ما قام به أحمد فارس الشدياق وناصيف اليازجي والمعلّم بطرس البستاني.
وبما أنّ اللغة تحتاج إلى تجسيد سياسي، دعا ساطع الحصري إلى دولة قومية عربية، متأثراً بأفكار الألماني هيردر، معتبراً اللغة ضمان القومية، والدولة القومية ضمان عودة العرب إلى مجدهم القديم. كان الحصري علمانياً في تصوره اللغوي والقومي وربط قسطنطين زريق، لاحقاً، وهو المؤمن الحاسم بالقومية العربية، بين القومية والديمقراطية والعلمانية والحداثة الاجتماعية. كما لو كانت القومية العربية لن تحقق أهدافها إلا إذا أخذت بما تأخذ به الأمم الديمقراطية الأخرى.
لم يكن في النظر القومي العربي، الذي تشكّل بين منتصف القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ملامح استبدادية أو إشارات إلى طغيان محتمل. كان جزءاً من "روح العصر"، إذ جمع الشعوب المخضَعَة تطلّعُ الاستقلال، وكان وجهاً من وجوه نزوعات قومية كونية الأبعاد، لها ما يشبها في الصين واليابان وألمانيا، وكان له طموحه المشروع في دولة تضم العرب جميعاً. ولم يكن في ذلك النظر، آنذاك، ما يشير إلى "أحزاب عقائدية" وإلى انقلابات عسكرية وحكومات أحادية المرجع،.... وإذا كانت القومية العربية قد بدأت قومية ـ ثقافية، فقد كان المدافعون عنها مثقفين يؤمنون بقوة الأفكار، اعتقدوا أن من حق شعوبهم أن تتمتع بحقوق الشعوب الأخرى.
غير أن وصول جماعات "مسيّسة" إلى الحكم، بعد مجيء الاستقلال الوطني، بعد الحرب العالمية الثانية 1945 ما لبث أن خلق صورة أخرى "للفكرة القومية"، لا تنظر إلى الحرية بارتياح كبير. ولم تكن الأنظمة المستبدة، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ظاهرة خاصة بالعالم العربي، كان هناك "جنرالات أمريكا اللاتينية"، وحكومات مماثلة في إفريقيا وغيرها. وما دعي بـ"أنظمة الخوف" لم يكن ظاهرة خاصة بالعالم العربي، بل إن هذه الأنظمة حظيت بأكثر من مباركة من "العالم الحر وأسياده"، حتى قال بعضهم "إن الديمقراطية تتعارض مع الخصوصية العربية".
وبداهة فإن الجديد لم يصدر عن "استبداد القومية العربية" المفترض، إنما صدر عن مصالح ومستجدات عالمية، تضمنت النفط والموقع الاستراتيجي لما دعي بـ"المشرق"، والرفض الحاسم لوحدة العرب وتوحّدهم، وأمان دولة إسرائيل، قلعة ديمقراطية. وتضمنت أيضاً القاعدة القائلة: "يحق للقوي أن يخلق وأن يمحو من دون مساءلة" وهو ما يستدعي اتفاقية سايكس ـ بيكو، التي أعادت خلق الجغرافيا العربية ـ قبل قرن من الزمن، ويستعد المرتبطون بها إلى إعادة خلقها من جديد هذه الأيام، مطمئنين إلى شعار "الاستبداد العربي"، الذي لا يمكن إصلاحه ذلك أن "الإنسان العربي يستعذب الدم ويستدعيه".
يدفع العرب اليوم ثمن حلمهم بدولة عربية موحدة مستقلة، اختصرها أعداء العرب في تعبير مصنوع هو "العروبة المستبدة".
(كاتب وناقد فلسطيني)