04 نوفمبر 2024
هل الاتحاد التونسي للشغل عبء على الانتقال الديمقراطي؟
خيّل للتونسيين أنه، بمنح مجلس النواب الثقة لحكومة يوسف الشاهد التي أجرى عليها تحويرات عميقة، وأداء وزرائها الجدد اليمين أمام رئيس الجمهورية، في مناخ من الصراع الحاد بين رئيسي السلطة التنفيذية، قد طوت البلاد أزمتها السياسية الحادّة التي امتدت على أكثر من نصف سنة، شلّت فيها مؤسسات عديدة في البلاد. ولكن ها هي بلادهم تدخل شوطاً آخر من أزمة اجتماعية سياسية، لا تقلّ حدة وخطورة عن التي فاتت. لقد خاض يوم الخميس الفارط (22/11/2018) ما يناهز 650 ألف موظف عمومي إضراباً شلّ البلاد. وينتظر أن يدخل الاتحاد العام التونسي للشغل في سلسلة من التحركات الاحتجاجية التصعيدية في الأسابيع القليلة المقبلة، حسب تصريحات جلّ قياداته، وهي تصريحاتٌ لا تستبعد الإضراب العام إذا لم تستجب الحكومة إلى جملة من المطالب العديدة، وفي مقدمتها الزيادات في الأجور. إذ يبدو أن الحكومة قد تعهدت في اتفاقيات سابقة بمراجعة الأجور باتجاه الزيادة فيها دورياً، غير أنها تراجعت عن وعودها تحت ضغوط صندوق النقد الدولي، المقرض الأهم لتونس، في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة، في حين ترى الحكومة أنها لم تتعهد بهذا الأمر، وأنها ليست خاضعة لأي طرف مانح، بل ماضية بطبعها في جملة من الإصلاحات الاقتصادية الضرورية.
ليست المرة الأولى التي يشنّ فيها الاتحاد إضراباً بمثل هذا الحجم منذ الثورة، إذ تفيد
إحصائيات منظمة مكتب العمل الدولي بأن تونس حازت الرقم القياسي العالمي في عدد الإضرابات المسجلة سنوية، لكن الموجة الجديدة تأتي بعد مشاحنات عديدة بين رئيسي الحكومة والجمهورية، على خلفية تنازع اختصاصات دستورية، فضلاً عن تباين سياسي واضح في التحالفات، زادتها مسألة التوريث (نجل الرئيس) حدّة. وقد أخرجها رئيس الحكومة إلى العلن في تصريحات مباشرة إلى الإعلام. بالتوازي مع ذلك، شنّ الأمين العام للاتحاد العام للشغل حملة إعلامية في تصريحات متشنّجة، غير مألوفة في الخطاب النقابي للأمناء العامين للمنظمة العريقة مهما كان خلافهم مع الحكومة، وهو الذي يتجاوز الأعراف أحياناً.
يتهم الاتحاد الحكومة بالارتهان لصندوق النقد الدولي الذي اشترط، حسب ما يدعي، الالتزام بعدم الزيادة في الأجور، والمعلوم أن الصندوق إذا أقرض دولة، فيكون هذا الأمر ضمن حزمة إصلاحات يراها ضرورية للخروج من الأزمة، ولذلك يقدم مقترحات بعد دراسات ومشاورات مطولة ومعقدة. وفي هذا السياق، يقترح التحكّم في كتلة الأجور التي تلتهم ما يفوق 70% من النفقات العمومية، وهي نسبة لا تنسجم مع حاجات التنمية الملحة. ولذلك يحرص الصندوق على أن تذهب القروض إلى نفقات التنمية الحقيقية، على غرار الصحة والتعليم والبنية التحتية، عوض نفقات التصرف التي تتقدّمها الأجور.
دخلت البلاد، منذ الثورة، في حلقةٍ مفرغةٍ من زيادات في الأجور، تعقبها زياداتٌ في الأسعار، وهكذا دواليك، من دون أن نرى تحسّناً حقيقياً في حياة الناس، بل تدحرجت فئاتٌ واسعةٌ من الطبقة الوسطى إلى الطبقات الفقيرة، في مناخٍ من الاحتقان الاجتماعي المعمّم. يرفض الجميع التنازل عما يعتبرونها حقوقاً، ويصرّون على نيل حقوقهم في ظل دولةٍ تضعف أجهزتها وهيبتها باستمرار. تغرق البلاد في سياق ذلك في مديونيةٍ قد تسلبها حقيقة سيادتها تدريجياً. تحمّل الحكومة الاتحاد جزءاً من المسؤولية في ذلك، من خلال هذه المطلبية المجحفة المرفقة بإضرابات قياسية، تعطل الإنتاج في سياقات عزوف الاستثمار الأجنبي، وأزمة السياحة على الرغم من تحسّنها النسبي، وتراجع إنتاج الفوسفات.. إلخ.
لا أحد ينكر على الاتحاد حقه الدستوري في ممارسة الإضراب. ولكن يبدو أن موجة الإضرابات الجديدة لم تخل من التسييس المفرط أحياناً. ولا يعود ذلك إلى طبيعة الشعارات المرفوعة المطالبة برحيل الحكومة، وشتم حركة النهضة في ساحة باردو المقابلة لمجلس
النواب، والتي شهدت اعتصام الرحيل ضد حكومة الترويكا (نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 – نوفمبر/ تشرين الثاني 2014). ولكن يبدو أن حضور قيادات حزب نداء تونس التي كانت محل ترحاب جزء من معركة لي الذراع الجارية بين مؤسسة رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. ويبدو أن الاتحاد، ونكايةً في يوسف الشاهد، ارتضى أن ينضم إلى أجندة "نداء تونس" القاضية بإطاحة حكومة ابنهم العاق الشاهد، خصوصاً وأن التقاء المصالح في هذه اللعبة السياسية يجعل من الاتحاد حليفاً لنجل الرئيس في معركة الوراثة، وهو ما يجعل كوادر عديدة، وسطى تحديداً، لا ترى نفسها في هذا الصراع العبثي، فضلاً عن دقة المرحلة التي تمر بها البلاد، خصوصاً في الجانب الاقتصادي الذي تنذر مؤشراته بعواقب وخيمة، لو استمر الأمر على هذا النحو.
تشي مؤشرات عديدة بأن الاتحاد يرغب في إنهاك الحكومة وإنهاك التحالف الحاكم قبل الانتخابات، وهي معركة يخوضها بالنيابة عن كثيرين، خصوصاً في ظل إشادة الرئيس الباجي السبسي بالاتحاد، فضلاً عن رموز حزب نداء تونس وقياداته التي دعت إلى إنجاح الإضراب، والإشادة بنجاحه فيما بعد. وقد صرح الأمين العام لاتحاد الشغل، نور الدين الطبوبي، غير مرة، بأن الاتحاد معني بانتخابات 2019، ومصرّ على أن يلعب أدواراً سياسية، ربما ستكون هذه المرة بشكل مباشر، خصوصاً وقد اعتاد، منذ الثورة، أن يردد أمام جماهير غفيرة تهتف "الاتحاد أكبر قوة في البلاد"، وعلى موجة من تكريمات انهالت عليه إثر حصوله على ثلث جائزة نوبل للسلام، غير أن اللعب تحت راية اللافتات السياسية سيغير المعطيات بشكل نهائي، والأرجح أنها لن تكون لصالحه. ولا يعني هذا القول تشكيكاً في الدور المهم الذي لعبه الاتحاد، إذ ساهم في الحوار الوطني، وأخرج البلاد من نفق مظلم، كادت تدخله، ولكن يبدو أن الدور السياسي الذي يصرّ على لعبه قد يربك الانتقال الديموقراطي، ويجعل البلاد غارقة في الفوضى الاجتماعية والسياسية مجدّداً.
ليست المرة الأولى التي يشنّ فيها الاتحاد إضراباً بمثل هذا الحجم منذ الثورة، إذ تفيد
يتهم الاتحاد الحكومة بالارتهان لصندوق النقد الدولي الذي اشترط، حسب ما يدعي، الالتزام بعدم الزيادة في الأجور، والمعلوم أن الصندوق إذا أقرض دولة، فيكون هذا الأمر ضمن حزمة إصلاحات يراها ضرورية للخروج من الأزمة، ولذلك يقدم مقترحات بعد دراسات ومشاورات مطولة ومعقدة. وفي هذا السياق، يقترح التحكّم في كتلة الأجور التي تلتهم ما يفوق 70% من النفقات العمومية، وهي نسبة لا تنسجم مع حاجات التنمية الملحة. ولذلك يحرص الصندوق على أن تذهب القروض إلى نفقات التنمية الحقيقية، على غرار الصحة والتعليم والبنية التحتية، عوض نفقات التصرف التي تتقدّمها الأجور.
دخلت البلاد، منذ الثورة، في حلقةٍ مفرغةٍ من زيادات في الأجور، تعقبها زياداتٌ في الأسعار، وهكذا دواليك، من دون أن نرى تحسّناً حقيقياً في حياة الناس، بل تدحرجت فئاتٌ واسعةٌ من الطبقة الوسطى إلى الطبقات الفقيرة، في مناخٍ من الاحتقان الاجتماعي المعمّم. يرفض الجميع التنازل عما يعتبرونها حقوقاً، ويصرّون على نيل حقوقهم في ظل دولةٍ تضعف أجهزتها وهيبتها باستمرار. تغرق البلاد في سياق ذلك في مديونيةٍ قد تسلبها حقيقة سيادتها تدريجياً. تحمّل الحكومة الاتحاد جزءاً من المسؤولية في ذلك، من خلال هذه المطلبية المجحفة المرفقة بإضرابات قياسية، تعطل الإنتاج في سياقات عزوف الاستثمار الأجنبي، وأزمة السياحة على الرغم من تحسّنها النسبي، وتراجع إنتاج الفوسفات.. إلخ.
لا أحد ينكر على الاتحاد حقه الدستوري في ممارسة الإضراب. ولكن يبدو أن موجة الإضرابات الجديدة لم تخل من التسييس المفرط أحياناً. ولا يعود ذلك إلى طبيعة الشعارات المرفوعة المطالبة برحيل الحكومة، وشتم حركة النهضة في ساحة باردو المقابلة لمجلس
تشي مؤشرات عديدة بأن الاتحاد يرغب في إنهاك الحكومة وإنهاك التحالف الحاكم قبل الانتخابات، وهي معركة يخوضها بالنيابة عن كثيرين، خصوصاً في ظل إشادة الرئيس الباجي السبسي بالاتحاد، فضلاً عن رموز حزب نداء تونس وقياداته التي دعت إلى إنجاح الإضراب، والإشادة بنجاحه فيما بعد. وقد صرح الأمين العام لاتحاد الشغل، نور الدين الطبوبي، غير مرة، بأن الاتحاد معني بانتخابات 2019، ومصرّ على أن يلعب أدواراً سياسية، ربما ستكون هذه المرة بشكل مباشر، خصوصاً وقد اعتاد، منذ الثورة، أن يردد أمام جماهير غفيرة تهتف "الاتحاد أكبر قوة في البلاد"، وعلى موجة من تكريمات انهالت عليه إثر حصوله على ثلث جائزة نوبل للسلام، غير أن اللعب تحت راية اللافتات السياسية سيغير المعطيات بشكل نهائي، والأرجح أنها لن تكون لصالحه. ولا يعني هذا القول تشكيكاً في الدور المهم الذي لعبه الاتحاد، إذ ساهم في الحوار الوطني، وأخرج البلاد من نفق مظلم، كادت تدخله، ولكن يبدو أن الدور السياسي الذي يصرّ على لعبه قد يربك الانتقال الديموقراطي، ويجعل البلاد غارقة في الفوضى الاجتماعية والسياسية مجدّداً.