04 نوفمبر 2024
هل من بديل عن النخب السياسية في تونس؟
مع احتفال تونس بالذكرى الثامنة لثورتها، لا يمكن إنكار حالة التبرّم التي تعصف بفئاتٍ عديدةٍ، خصوصا الشباب العاطل من العمل، وساكنة المناطق الداخلية، فضلا عن فئات واسعة من الطبقات الوسطى التي التحقت بالطبقات الشعبية الفقيرة، نتيجة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة. جل التقييمات التي يردّدها الناس العاديون سلبية، تتهم مختلف النخب السياسية والإعلامية بأنها أغرقت البلاد في خصوماتٍ ومشاحناتٍ حزبيةٍ، لم تجن منها سوى مزيد من المديونية وغلاء الأسعار واتساع الفروق بين الطبقات والمناطق.
عبثا يحاول بعضهم من النخب التحرّش ببعضهم بعضا، غير مدركين أن الناس لا يفرّقون في أحكامهم تلك بين نخبٍ وأخرى، وإنما استنادا إلى حسهم المشترك، يجمعونها في سلة واحدة، خصوصا وأن لهم جميع المؤيدات في ذلك. يقول هؤلاء لقد "جرّبناكم تقريبا كلكم": نخب الثورة ونخب النظام القديم، الإصلاحيين والثوريين، المتحزبين والمستقلين والتكنوقراط، خريجي الجامعات التونسية والقادمين من جامعات أجنبية مرموقة.. إلخ، والنتيجة واحدة: المزيد من الإخفاق وتأزم الوضع الذي يكاد مرة أخرى ينفجر.
يعمد بعضهم إلى الدفع بهذا الحس المشترك والبحث له عن مبرّرات وحجج، متناسيا أن الأمر لو غدا قناعةً، لتحولت البلاد إلى فضاء غير قابل للحكم هي أقرب إلى حدائق "جوارسيك بارك". يستثمر الفوضيون والعدميون، وحتى أنصار النظام السابق في تجريم النخب، بحثا عن "البيان الأول" أو استعادة ماضي بن علي، وأحيانا الدفع بأشكال متعددة إلى الاستبداد باسم الشعب أيضا، فيردّد بعض منهم "الشعب يريد نظاما من حديد".
لسنا في تونس معزولين عما يجري في العالم، وتحديدا في تلك الديمقراطية التي من فرط
عراقتها تكلست، ونضب الدم في عرقها، حتى غدت ديمقراطية. مؤسساتٍ هرمة، عجزت عن التقاط المطالب والرغبات في مجتمعاتٍ حداثتها سائلة. ثمّة ولا شك فرق نسق هائل بين هذه الديمقراطية ونبض الشارع وحراكه الذي يشبه الدوار من فرط عنفوانه. يسائل المفكرون وأصحاب القرار هناك ديمقراطيتهم. ويبحثون عن تجديدها، ولهم في ذلك خيارات، لكنهم في ذلك كله غير مطمئنين إلى تنامي هذه النزعات الشعبوية التي تبخّس الديمقراطية، وتدفع الشارع، حتى يعبر عن نفسه بشكل مباشر، فهذه النزعات ترفض عادة إيكال أمرها إلى ناطقين باسمها أو ممثلين عنها.
في واقع حالنا، الأمر مختلف، لأننا لسنا في حالة ديمقراطية عريقة، بل نتدرّب عليها ونتعلم منها. مند سنوات قليلة خلت، كنا نرزح تحت حالة استبدادٍ نادرة، انتهك فيها الحد الأدنى من الحقوق والحريات، ولكن الأمور تغيرت، بفضل ثورةٍ كانت شبه معجزة في محيطٍ يمثل حالةً من الاستعصاء الديمقراطي. ولعل في فشل كل أخوات الثورة التونسية ما يمنح بعض المستشرقين من حجج تدعم أطروحتهم تلك.
ليست النزعات الشعبوية التي تنتشر في تونس، وتدفع بعضهم إلى تبنّيها مبرّرات فلسفية وسياسية، ناجمة عن تجريب الديمقراطية التمثيلية والوقوف على حدودها وقصورها، وإنما ناتجة بالأساس من ترذيل السياسة والسياسيين بشكل عام، وهو ترذيل لم تستفد منه غير جيوب الصد التي تشدّ، بحنين شرس، إلى النظام السابق. هل معنى ذلك أننا ننزّه النخب؟ قال مرة رئيس الحكومة الأسبق، حمادي الجبالي: "نكبتنا في نخبتنا"، فووجه ذلك التصريح الشهير برد فعل عنيف من تلك النخب، خصوصا السياسية والثقافية، لأنه كان آنذاك عنيفا وصادما. أما الأن فقد غدا ذلك التصريح مضرب الأمثال، يردده عديدون عن قناعة تامة، ولكن من أجل نسف المنجز، حتى ولو كان ضئيلا: الدستور، التداول السلمي على السلطة، الدولة المدنية، حرية التعبير التي استفاد منها هؤلاء بالذات.
لا أحد ينكر أن النخب، على اختلاف ميولاتها وأصولها الاجتماعية، وموقفها من السلطة،
تتحمّل المسؤولية كاملة فيما حدث، خصوصا وقد انقضى عن الثورة أكثر من ثماني سنوات، بدأ صبر الناس فيها ينفد تدريجيا. ولكن أعتقد أن علينا أن نحتفظ في هذا النقد بجملةٍ من العناصر، لعل أهمها أن لوبيات الفساد المتغلغلة في مفاصل الدولة استطاعت أن تحدّ من جهود الحكومات، حتى ولو كانت بسيطة، إذ استطاع هؤلاء أن يطوّروا مجتمعا موازيا، اقتصادا موازيا، يستولي على أكثر من نصف ثروات البلاد ومقدراتها، أجهزة حماية خاصة، على شاكلة عصابات مجرمي الحق العام، لا تتواني عن استعمال السلاح، عند الضرورة، اختراق أجهزة الدولة بأشكال عديدة ضمن سلسلة من التواطؤ والفساد. لم تكن للنخب الجرأة الكافية وللدولة القوة اللازمة لمحاربة هذا المجتمع الموازي. كما أن الصراعات الحزبية الضيقة التي لم تتعفّف بعد عن الاستثمار في الفشل كانت أيضا سببا لهذا السخط المتنامي من النخب، وقد تحوّلت "نخبا مضادة" أحيانا، تجسّد أسوأ ما في المجتمع: الانتهازية، العنف، الأنانية.
هل نستورد نخبا من كواكب أخرى لحكم البلد؟ ليس لنا من حلٍّ سوى ضرورة المراجعة والنقد الذاتي، والتحلي بكثير من التواضع والجرأة معا، حتى نستكمل ترسيخ هذا الانتقال الصعب. لا بديل عن الديمقراطية سوى المزيد منها، من دون نسيان مشاغل الناس اليومية، فالاستجابة لها ستنعكس حتما على إيمان الناس بالديمقراطية، وجعلها مكسبا لا يقدّر بثمن. تلعب النخب، في ذلك كله، دورا بيداغوجيا، وأخلاقيا حاسما، بقطع النظر عن النجاعة والنجاح، على الرغم من أهميتهما.
عبثا يحاول بعضهم من النخب التحرّش ببعضهم بعضا، غير مدركين أن الناس لا يفرّقون في أحكامهم تلك بين نخبٍ وأخرى، وإنما استنادا إلى حسهم المشترك، يجمعونها في سلة واحدة، خصوصا وأن لهم جميع المؤيدات في ذلك. يقول هؤلاء لقد "جرّبناكم تقريبا كلكم": نخب الثورة ونخب النظام القديم، الإصلاحيين والثوريين، المتحزبين والمستقلين والتكنوقراط، خريجي الجامعات التونسية والقادمين من جامعات أجنبية مرموقة.. إلخ، والنتيجة واحدة: المزيد من الإخفاق وتأزم الوضع الذي يكاد مرة أخرى ينفجر.
يعمد بعضهم إلى الدفع بهذا الحس المشترك والبحث له عن مبرّرات وحجج، متناسيا أن الأمر لو غدا قناعةً، لتحولت البلاد إلى فضاء غير قابل للحكم هي أقرب إلى حدائق "جوارسيك بارك". يستثمر الفوضيون والعدميون، وحتى أنصار النظام السابق في تجريم النخب، بحثا عن "البيان الأول" أو استعادة ماضي بن علي، وأحيانا الدفع بأشكال متعددة إلى الاستبداد باسم الشعب أيضا، فيردّد بعض منهم "الشعب يريد نظاما من حديد".
لسنا في تونس معزولين عما يجري في العالم، وتحديدا في تلك الديمقراطية التي من فرط
في واقع حالنا، الأمر مختلف، لأننا لسنا في حالة ديمقراطية عريقة، بل نتدرّب عليها ونتعلم منها. مند سنوات قليلة خلت، كنا نرزح تحت حالة استبدادٍ نادرة، انتهك فيها الحد الأدنى من الحقوق والحريات، ولكن الأمور تغيرت، بفضل ثورةٍ كانت شبه معجزة في محيطٍ يمثل حالةً من الاستعصاء الديمقراطي. ولعل في فشل كل أخوات الثورة التونسية ما يمنح بعض المستشرقين من حجج تدعم أطروحتهم تلك.
ليست النزعات الشعبوية التي تنتشر في تونس، وتدفع بعضهم إلى تبنّيها مبرّرات فلسفية وسياسية، ناجمة عن تجريب الديمقراطية التمثيلية والوقوف على حدودها وقصورها، وإنما ناتجة بالأساس من ترذيل السياسة والسياسيين بشكل عام، وهو ترذيل لم تستفد منه غير جيوب الصد التي تشدّ، بحنين شرس، إلى النظام السابق. هل معنى ذلك أننا ننزّه النخب؟ قال مرة رئيس الحكومة الأسبق، حمادي الجبالي: "نكبتنا في نخبتنا"، فووجه ذلك التصريح الشهير برد فعل عنيف من تلك النخب، خصوصا السياسية والثقافية، لأنه كان آنذاك عنيفا وصادما. أما الأن فقد غدا ذلك التصريح مضرب الأمثال، يردده عديدون عن قناعة تامة، ولكن من أجل نسف المنجز، حتى ولو كان ضئيلا: الدستور، التداول السلمي على السلطة، الدولة المدنية، حرية التعبير التي استفاد منها هؤلاء بالذات.
لا أحد ينكر أن النخب، على اختلاف ميولاتها وأصولها الاجتماعية، وموقفها من السلطة،
هل نستورد نخبا من كواكب أخرى لحكم البلد؟ ليس لنا من حلٍّ سوى ضرورة المراجعة والنقد الذاتي، والتحلي بكثير من التواضع والجرأة معا، حتى نستكمل ترسيخ هذا الانتقال الصعب. لا بديل عن الديمقراطية سوى المزيد منها، من دون نسيان مشاغل الناس اليومية، فالاستجابة لها ستنعكس حتما على إيمان الناس بالديمقراطية، وجعلها مكسبا لا يقدّر بثمن. تلعب النخب، في ذلك كله، دورا بيداغوجيا، وأخلاقيا حاسما، بقطع النظر عن النجاعة والنجاح، على الرغم من أهميتهما.