هل يقبل الله صيام الحكام العرب؟

27 ابريل 2020
+ الخط -


أموت وأعرف، "لا، بلاش أموت لأن الموضوع مش مستاهل"، يكفي أن أعرف بأي أمارة يتبادل الملوك والرؤساء العرب كل هذا القدر من مكالمات وبرقيات التهاني بمناسبة حلول شهر رمضان المعظم، وهل هم حقًّا فرحون إلى هذا الحد بقدوم شهر الصيام كما يفرح به أطفال باب الشعرية وحلب ومراكش وصلالة ونجران وجزر الملايو وأم درمان الذين سيسمح لهم آباؤهم بأن يشاركوا الأسرة في صومها هذا العام؟

سؤال يقودني إلى سؤال آخر لا أمَلُّ من إعادته كل رمضان ـ لعل الإفادة تتحقق يومًا في إحدى مرات الإعادة ـ هل يتقبل الله صيام الحكام العرب؟ لاحظ أنني في مناسبة كهذه اخترت سؤالًا صعبًا وشائكًا كهذا مع أنه كان يمكن أن أسأل أسئلة بلهاء مثل: هل يجلس الحكام العرب مثلما نجلس عقب ليلة الرؤية لكي يرسلوا لبعضهم الماسجات الرمضانية التي يتفنن في صنعها خبراء شركات المحمول؟ أو أسأل عما إذا كانوا يقومون بتجهيز حاجات رمضان مثلنا في آخر لحظة، أم أنهم يخططون لذلك بشكل علمي فيبدأون في تجهيزها قبل ليلة النصف من شعبان؟ فأنا أعلم أن ما نفرح به نحن من متلازمات رمضان (ولا أقول لوازم رمضان) كالمكسرات والحلويات والياميش والقطائف والولائم العامرة مبذولة لهم طيلة العام، والمبذول كما تعلم مملول، لذلك فكل هذا الهوس الرمضاني بالأكل والشرب والذي يجتاحنا نحن كشعوب ليس مطروحًا لدى حكامنا، فهم بالتأكيد أكثر فرحًا بالجانب الروحي للصيام، نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدًا منهم فكلهم ما يعلم بيهم إلا ربنا، هم بالتأكيد يحبون شهر رمضان لأنه يتيح لهم أن يجربوا ولو لساعات الجوع الذي يجربه الشعب طيلة العام، لكي يقولوا ساعة انطلاق مدفع الإفطار: "بقى هو ده الجوع اللي بتشتكي منه الشعوب؟! طب ما هو صحي ولذيذ أهوه، طب والله ما أنا مشبّعكو يا كلاب".

قد يستبق مُستبِقٌ الإجابة على سؤالي هذا، فيوجه لي سؤالًا آخر: ولماذا تفترض منذ البداية أن الحكام العرب يصومون أساسًا؟ وجوابي للأخ السائل الكريم: اعلم يا هداك الله أنني لا يمكن أن أدخل أبدًا ما بين العبد وربه فأفترض أنه ملتزم بطاعته أو تارك لها، فنحن كعبيد لله ليس لنا إلا ظاهر ما نراه، ولذلك علينا أن نفترض أن تبادل التهاني بين الحكام العرب هو فرح بقدوم شهر الطاعة الذي يصومون فيه عملًا بقول الله تعالى "فمَن شَهِد منكم الشهرَ فليصمه ومَن كان مريضًا أو على سفر فَعِدَّةٌ من أيام أُخَر"، وبما أن أغلب الحكام العرب لا يحبون أن يكونوا على سفر ضمانًا لعدم حدوث انقلابات عسكرية خلال سفرهم، وبما أن صحتهم كما لا يخفى عليك مثل البُمب بحيث دفنوا أجيالًا وراء أجيال وهم باقون بعد على كراسيهم، لذلك فقد حق عليهم الالتزام بالأمر الإلهي، ولذلك لا أنا ولا أنت نستطيع أن ندخل في ضمائرهم ونفترض أنهم لا يصومون رمضان، وأنهم يكتفون منه بالفرجة على السيت كوم والمسلسلات وأكل القطائف والمكسرات وترديد "وحوي يا وحوي إيوحه".

ستقول لي طيب إذا كنت متطهرًا محترزًا عن رمي الناس بالظُنَّة إلى هذا الحد فلماذا تسأل سؤالًا أسخم لا يعلم إجابته إلا الله وحده كالذي سألته، هل يعقل أن تلومني لأنني أسأل عما إذا كان الحكام العرب يصومون من أصله، فإذا بك تسأل وهل يقبل الله صيامهم؟ كيف تسأل عن شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل. وإجابتي يا عزيزي السائل: اعلم يا هداك الله أن سؤالي ليس فيه والعياذ بالله اجتراء على الله عز وجل ولا منازعة له في ما اختص به نفسه، فحاشا لله أن أكون من الجاهلين، وما سؤالي إلا من باب أن تسأل نفسك أو شيخك أو أولي قرباك: هل يتقبل الله صلاة الظالم أو المفسد في الأرض، ولو شاء الله عز وجل أن يجعل سؤالًا مثل هذا محرمًا لما قال لنا في كتابه الكريم: "إِنَّما يَتَقبَّل اللهُ من المُتقين"، وهي إجابة طُرِحت في بدء الخليقة منذ عهد ولديْ سيدنا آدم لسؤال كان رب العزة لا محالة يعلم أنه سيثور في ذهن كل أولاد آدم في كل العصور عن المعيار الذي يفرق بين من يلتزم بقشور الطاعات وبين من ينفذ إلى جوهرها ويلتزم به.

لذلك يا حياك الله من حقي ومن حقك أن نستغرب تلك الفرحة التي يقال لنا إن الحكام العرب يشعرون بها عند قدوم شهر رمضان إلى حد يدفعهم لتبادل التهاني والتبريكات، بينما لو فكروا قليلًا لأدركوا أنه من التناقض أن تفرح بقدوم شهر أنت على قطيعة كاملة مع كل ما يمثله، فإذا كان الحاكم العربي يحتفي بشهر رمضان المعظم بوصفه الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم فدعنا نسأل راغبين في الفهم ليس إلا، أين هو من القرآن الكريم؟ وهل طبّق منه في بلاده شيئًا غير الآية التي تحض على طاعة أولي الأمر؟ ومنذ متى فتح كتاب الله بحق وحقيق، بدلًا من الاكتفاء بتقبيله عندما يأخذه هدية في افتتاح كوبري أو مصنع أو تسليم شهادة لحافظ قرآن ثم يعطيه لمساعديه لكي "يِعينوه" مع من سبقه من مصاحف؟ وإذا كان الحاكم العربي لكي لا نرجمه بالغيب يقوم بفتح ما يهدى إليه من مصاحف، ويقرأ فيها ما تيسر وهو ينتظر أذان المغرب أو أذان الفجر أو حتى وهو يقوم الليل إذا أحسنَّا به الظن إلى أبعد مدى، فهل مر يومًا ما على آية "إن اللهَ يأمرُ بالعَدْل والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" وهي آية لو تأملت لوجدت أن الحكام العرب لا يلتزمون منها إلا بإيتاء ذوي القربى.
طيب، إذا افترضنا أن الحاكم كأي مواطن يتوقف في شهر رمضان عما اعتاده من هجر للمصحف الشريف ويقوم بفتحه ولو للحظات قبل أذان الفجر أو أذان المغرب، فهل يمكن أن نفترض أنه قرأ في لحظة رمضانية قوله تعالى: "وَلا تُفسِدوا في الأرضِ بَعْد إِصْلاحِها"، الإجابة: ربما فعل وظن أن الآية ليست موجهة له؛ لأن الواقع ينبئنا أن الحاكم العربي لا يُصلح في الأرض بل يكتفي بإفسادها فقط.

سؤال آخر: هل وقعت عينا حاكم عربي ذات مرة على التحذير الإلهي المهيب "وإذا أرَدْنا أن نُهلِك قريةً أَمَرنا مُتْرفيها فَفَسقوا فِيها فحقَّ عليها القولُ فدمَّرناها تَدْميرا"؟ الإجابة: ربما قرأها وظن أنها لا تخصه لأنه لا يحكم قرية بل جمهورية أو مملكة، لا أريد أن أذكرك بأننا لسنا بحاجة إلى أن نعدد الآيات التي يمكن لقراءتها أن تغير من قارئها إلى الأبد إذا كان يخشى ربه، وقبل أن تتهمني بالدخول في نوايا الناس دعني أذكرك بأن الله عز وجل هو القائل في محكم كتابه: "اللهُ نزَّل أحسنَ الحديثِ كِتابًا مُتشابهًا مَثَاني تَقْشَعِرُّ منه جُلودُ الذين يَخْشَون رَبَّهُم"، وإذا كانت جلود الحكام العرب من النوع الذي يخشى الله، فقل لي لماذا لا تقشعر داخل أوطانهم أي جلود سوى جلود الذين يتعرضون للتعذيب في أقبية السجون والمعتقلات؟!

يا هداك الله إذا كان الحاكم العربي يحتفي بشهر رمضان لأنه شهر الرحمة فأين هي الرحمة في واقعنا المعذب؟ ولماذا لا يقرر من باب الرحمة أن يقتدي بشهر رمضان فينتهي ذات يوم أو تنتهي مدته ويهل علينا عيد لا نراه فيه؟ وإذا كان الحاكم العربي يحتفي بشهر رمضان لأنه الشهر الذي يحس فيه الأغنياء بآلام الفقراء كما قالوا له ذلك في المدرسة يومًا ما، فلماذا لا يحس بآلام الفقراء ولو في هذا الشهر فيتوقف عن نهب المال العام ويجبر معاونيه ومساعديه على إيقاف النهب والسرقة والتربح والبزنسة ولو شهرًا واحدًا في السنة لعل بلاده تأخذ نفسها قليلًا وتفوق لنفسها ولو حتى ثلاثين يومًا فقط لا غير؟

وإذا كان الحاكم العربي يحتفي بشهر رمضان لأنه الشهر الذي يتجمع فيه الناس سويًّا على موائد الإفطار فيتزاورون ويتراحمون ويتوادون فلماذا لا يقرر أن ينزل إلى الشارع ولو ذات ليلة مفترجة بدون حراس ومواكب وسرينات وتشريفات وأمن دولة ودولة أمن ليترك للناس فرصة التعبير عن حبهم له وفدائهم له بالروح والدم؟ لماذا لا يستغل فرصة أن أحدًا لن يكون راغبًا في الفتك به في نهار رمضان لكي لا يخسر صيامه ولا الفتك به بعد الإفطار لأنه لن يكون قادرًا على الحركة من تخمة الإفطار؟ لماذا لا ينزل إلى الناس فيسمع رأيهم الحقيقي فيه؟ رأيهم الذي لا يزوِّقه وزير إعلام ولا ينتحله رئيس تحرير صحيفة ولا يبتذله عضو حزب حاكم عاكم. بالمناسبة، لماذا حتى الراقصات يقفن بأنفسهن على موائد رحمن التي يقمنها للفقراء في رمضان ولا يقوم أي حاكم عربي على أي مائدة رحمن كما يقوم على موائد الشيطان التي يعقدها لحكام أمريكا وأوربا وإسرائيل؟ لماذا لا يرى فقراء الشعب حاكمهم يجلس بينهم ولو حتى بصحبة حراسته يفسخ لهم حتة من صدر الديك، أو يغرف لهم شيئًا من الرز بالشعرية أو يدعوهم إلى قليل من الخشاف أو يذكرهم بأن طبق الخس مهدور حقه على السفرة؟
خلاصة الكلام يعني، إذا كان رمضان لم يغير شيئًا في الحكام العرب فلماذا يضحكون على ذقوننا ويقولون إنهم فرحون به مهللون لحضوره مهنئون لقدومه؟ وإذا كان الحاكم العربي يصوم رمضان فعلًا دون أن يدفعه لقراءة القرآن والعمل ولو بربع حِزب منه، ودون أن تغمر الرحمة قلبه وتدفعه لصلة رحم شعبه والتخفيف من وعثاء حكمه وكآبة منظره وسوء منقلبه، فكيف يمكن أن يتقبل الله صيامه؟ لا تتهمني بالتدخل في شأن من شؤون الله، وتذكر أن نبينا الكريم علمنا ألا صيام لمن لا صلاة له، هتقول لي إن الحكام العرب لو صاموا رمضان سيصلون فيه بالتأكيد، هنا دعني أقفلها لك وأذكرك بقول نبيك الكريم أن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، وهل هناك فحشاء ومنكر أكثر من نهب ثروات الشعوب وتقييد حرياتها وقمع أحرارها وتأجيرها مفروشة بأبخس الأثمان للخواجات والأجانب ودفع الناس إلى الخسة كأسلوب حياة والمذلة كمنهج تفكير والخوف كطريق للسلامة؟
لذلك ولذلك كله اعلم يا هداك الله أنه لو كان حكامنا موجودين على ظهر البسيطة يوم أن فرض الله عز وجل تقييد إبليس اللعين في شهر رمضان لربما اشتكى قاتله الله إلى رب العزة كيف يقيده هو وذريته في رمضان بينما يترك الحكام العرب وأنجالهم وذريتهم أحرارًا مطلوقين علينا.
...
ـ فصل من كتابي (ضحك مجروح) الذي صدرت طبعته الأخيرة العام الماضي عن دار الشروق، وقد نشرت هذه السطور لأول مرة عام 2007، وأظنها لا تزال صالحة للنشر ـ

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.