فتح بحث للمستشرق والمختص في الدراسات الموسيقية، الاسكتلندي هنري جورج فارمر (1882-1965)، بعنوان "أدلّة عن التأثير العربي على نظرية الموسيقى" المنشور في مجلة "الجمعية الملكية الآسيوية" سنة 1925، أبواب السجال مع باحثة موسيقية بريطانية هي كاثلين شليسنجر، شكّكت بنتائج الباحث الاسكتلندي من خلال بحث لها بعنوان "هل تدين أوروبا حقاً في نظريتها الموسيقية للعرب؟".
كان ذلك ما دعاه إلى جمع ردوده وأبحاثه في هذا السياق داخل كتاب حمل عنوان "حقائق التأثير الموسيقي العربي"، وقد صدر مؤخّراً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" و"المجمع العربي للموسيقى"، بترجمة الليبي عبد الله السباعي مع "شفاعةٍ" من المترجم المختص في الموسيقى تقول إن جهود فارمر تنصبّ في "مهمة الدفاع بكل قوة عن الموسيقى العربية، وأثرها الواضح في تقدّم الموسيقى الأوروبية الغربية".
في إحدى نقاط بحثها، تشير شليسنجر إلى أنه لم يكن للعرب أصلاً نظام موسيقي ليقدّموا شيئاً للأوروبيين، إنما تبنّوا واستعاروا النظام الموسيقي الذي وجدوه لدى الفرس، فيما يسجّل فارمر في ردّه - من خلال الاستعانة بكتاب "الموسيقى الكبير" للفارابي - نظاماً موسيقيّاً في السلّم الموسيقي لآلة الطنبور البغدادي، حيث استبدل هذا النظام، في ما بعد بالتنغيم الفيثاغوري.
في أولى خطوات دحضه رأي شليسنجر (القائل إن البيزنطيين والإغريق، لا العرب، هم من أثّروا في الأوروبيين وموسيقاهم)، أكّد عدم وجود أي نوع من التنظيرات الموسيقية عند البيزنطيين في الفترة الفاصلة بين القرن الرابع والقرن الحادي عشر.
إلا أنه يورد ما وصفه بـ "التأثير المحدود في كتاب الأغاني للأصفهاني القرن العاشر"، حين يحدّثنا عن وجود تأثير، لكنه يظلّ محدوداً كونه لم يصل مستوى التنظير الموسيقي، وحين التقف العرب شيئاً من أفكارهم قاموا بتطعيمها، حيث أدخل سعيد بن مسجح شيئاً من التقاليد الموسيقية البيزنطية إلى الموسيقى العربية، إلا أنها لم تكن شائعة، أو لم تستطع أن تصبح شائعة، كون العرب في ذلك الوقت كان لهم نظامهم الخاص في الإيقاعات والقيم الزمانية.
ينتقل فارمر إلى الخطوة الثانية في دحض رأي شليسنجر، بالقول بوجود قطيعة بين معرفة الإغريق بالتدوين الموسيقي وما لحقه من تدوين في أوروبا، ومن ثمّ يذهب إلى وجود مرحلة انتقالية، جرى فيها وضع أسس تدوين موسيقي لفظي عند العرب، قبل أن يصل ذلك إلى أوروبا، كما أنه يلاحظ عدم تدوين الموسيقى الآلية في اليونان، وظهوره في الموسيقى الأوروبية بعد ذلك، ما يشير إلى نقلة لم يجر توثيقها من قبل المؤرّخين.
نظراً إلى غياب التأريخ الأوروبي، يتّجه فارمر صوب المدوّنات العربية ليكشف لنا أنه، وفي أثناء خلافة المأمون، كانت هناك طريقة للتدوين معروفة (الأغلب أنها كانت عند منظّري الموسيقى لا عند الممارسين).
ويذهب أبعد من ذلك حين يورد نمط تدوين موسيقي ظهر في أعمال يحيى بن علي بن يحيى الذي يُعتبر وريثاً لمدرسة إسحق الموصلي، في جدولٍ احتوى الرموز والنغمات المقابلة لها لآلة العود، مثبتاً تواريخ ظهور هذه الطرق في التدوينات.
كان الأوروبيون يستعلمون في موسيقاهم نغمات ذات قيم زمانية متساوية، كما ظهر في الأناشيد الجريجورية، حتى القرن العاشر، حين ظهرت صيغة أو قالب أُطلق عليه، ما يعرف به (organizing)، ويحتوي على أداء نغمات متوافقات ليس في مفهوم الموسيقى الكلاسيكية، وإنما كأصوات متزامنة عرف بالأورغانوم أو الديافوني (organum) أو (diaphony).
أمّا كيف نشأت وتكوّنت، فكان ذلك مجال تركيز فارمر، ليجيب أنها ترجع في تقنيتها إلى ما يُسمّى بالتضعيف الذي يعتمد على البعد الثمانيّ، وأن التحرّك من التضعيف إلى التنظيم كان الخطوة الأولى للتقدّم نحو الأسلوب التوافقي (أو الهارموني بالمصطلح المعاصر).
لكن من الذي قام بهذه الخطوة الأولى؟ يثبت فارمر أن أول من تعامل مع هذا المصطلح وأورد ذكره كان ابن سينا في "رسالة الشفاء"، تحت مسمى التضعيف والتركيب.
يفصل فارمر في أدلّة التأثير العربي في الآلات الموسيقية، الديسكانت أو تعدّد الأصوات المتقدم، الأورغانوم أو تعدّد الأصوات الابتدائي، قواعد توافق الأصوات، القراءة الزمنية الغنائية، التدوين الجدولي، إضافة إلى الموسيقى الموزونة والترقيم والتدوين الموسيقي (النوتة) ويذهب إلى أن قناة التأثر الأوروبي بالعرب كانت عبر الأندلس وجامعاتها، أو عبر الترجمة المتقدمة.
أخيراً، ما قام به فارمر أثناء مقدمة الكتاب، من محاولة رفع شأن علوم العرب أمام قرينتها الأوروبية في ما أطلق عليه رباعية العلوم؛ الرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى، كان في بداية بحثه لدحض فكرة تأخر وتخلف العرب المسيطرة على أذهان الباحثين الأوروبيين، كتمهيد للدخول في إثبات نظريته في أن للعرب تأثيراً على أوروبا، كمتطلّبات للبحث، وهو ما فهمه بعضهم على أنه رفع لواء الدفاع عن العرب، وإن صح منهم القول في أساس التأثير.
اقرأ أيضاً: تخت فارسي