13 نوفمبر 2024
هيا بنا نلوّن أيامنا
عندما كبرت، ضحكت حتى كدت أن أنقلب على ظهري، وارتفع صوت ضحكي مراراَ، حتى التفت نحوي الحاضرون، وهم يعتقدون أن بي مسّاَ من جنون. ولكني، في الحقيقة، أكون قد سرحت مع تخيلاتي البكر، فقد كنت أعتقد أن الكبار هم فصيلة أخرى من البشر، قد جاءوا إلى الحياة هكذا، كبارا بظهور منحنية وتجاعيد كثيرة. والمصيبة الكبرى أنني اعتقدت أن الشعر الأبيض خلقة ربانية لصنف ثالث من البشر، خصوصا أني قد رأيته يغزو رأس الصغير قبل الكبير، ولم أكن أتخيل أن الشعر الأبيض سوف يغزو سواد شعري، حتى كبرتُ وفهمتُ وعرفتُ أن الكبر هو المرحلة الأخيرة من عمر الإنسان، وأن الشعر الأبيض سوف يطاول رأسي لا محالة.
يحب الإنسان الحياة ويتمسّك بها بصور خفية، ويرى أن هناك مؤشّرات لانتهائها. ولذلك حارب الشيخوخة على مر الزمان، وامتلأت محال العطارة التي كانت تمثل الصيدليات، في وقتنا هذا، بالعلب المعدنية منبعجة الأطراف والقناني غامقة اللون لإضفاء المهابة على محتواها. وطرق الناس أبواب هذه المحال، بحثا عن سر العمر الطويل والصحة الجيدة، فطرقه الرجال بحثا عن منشّطات جنسية، قبل اختراع الفياغرا بالطبع، وطرقته النساء لإصلاح ما خرّبه الدهر في وجوههن، وفي شعر رؤوسهن. وأول علاج بحثن عنه هو علاج الشعر الأشيب، والذي يُجمع الجميع أنه أول علامات الكبر والتقدّم في العمر. وتبارت النساء في ابتكار الطرق المختلفة لإخفائه، ولم يكتشفن أفضل من الحنّاء، وهي من أشجار الجنّة كما يقال، ولكنها جنّة النساء والمنجية على الأرض.
لا أنسى أنه كان لجدّتي، رحمها الله، عشق طويلة مع الحنّاء. ولا أذكر أنني قد رأيتها يوما من دون شعر مخضّب بالحناء، أو يدين ملونتين بها. وكانت أحيانا تمعن في استخدامها، فتخضّب باطن قدميها، اعتقادا منها بأن ألمهما سوف يزول، ولكنها كانت تتحوّل إلى كائن خرافي بخضابها، مثل أن تعتقد أنها أم "باتمان" أو زوجته، حين ترى حُمرة رأسها وأطرافها. وكانت جدّتي تستحق جائزةً علميةً رفيعةً، لأنها ابتكرت، بفطرتها، علاقة وطيدة بين ثبات لون الحناء مدة طويلة وعجنها بالشاي الغامق، والذي كانت تتركه يغلى فوق موقدها الصغير حتى "ينقطع نفسه"، ثم تجبل الحنّاء، أي تعجنها بعد أن يبرد. وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن للشاي الأسود الغامق فعالية كبيرة في علاج الشيب وتقليل ظهوره، في حال غسل الشعر به على الدوام. ولذلك تستحق جدتي جائزة على تفكيرها الفطري، ولكنها ربطت بين الحناء وأفراحها، ولوّنت أيامها بالحنّاء حتى مماتها. وقد تركت الوعاء الخزفي الذي يحتوي على الحنّاء المجبولة أسفل خزانتها الخشبية، وكأنها تترك لنا رسالةً بأن نستمر في تلوين أيامنا، فعلى الرغم من أنها كانت تعاني من أكثر من مرض، فهي لم تصل إلى الطبيب، وقلبها كان موجوعا بغياب أولادها وغربتهم وتشتتهم في البلاد البعيدة، بعد احتلال قطاع غزة العام 1967. وكلما سمعت خبرا طيبا عن أحدهم، خضّبت شعرها ويديها وأخمص قدميها، وظلت تشعر بالإنجاز والسعادة وتحدّي المرض والعجز وعدم القدرة على الحركة، حتى ماتت.
هيّا بنا نلوّن أيامنا... لماذا لا نرفع هذا الشعار، ونحن نواجه هذا الكم من المشكلات في عصرنا هذا، فكل شيء يمضي سريعا، وفجأة تفاجئنا أعمارنا بتجاعيد وجوهنا ومشيب رؤوسنا. ولا أحد يحتمل فكرة أننا قد كبرنا إلا أحبتنا. ولذلك علينا أن نبقى أقوياء. نلوّن أيامنا بالرضا والقناعة والأمل، لكي نمضي نحو النهاية بنفسٍ راضية، وقناعة تامة أننا عشنا كما ينبغي، وأننا قاومنا من دون تخاذل، فلا شيء يقتل الروح، ويسرع بها نحو النهاية، مثل الشعور بالضعف وعدم القدرة على المواجهة. دعونا نلوّن أيامنا بالحنّاء، بصبغات الشعر وحتى بحقن البوتوكس والفيلر. دعونا ننظر إلى الغد نظرةً حانيةً، لعله يحنو علينا، ولا يقسو بغابر نوائبه... ما أقسى الأيام إن لم نسارع بتلوينها، هيا بنا، يا رفاق، نلوّن أيامنا..
لا أنسى أنه كان لجدّتي، رحمها الله، عشق طويلة مع الحنّاء. ولا أذكر أنني قد رأيتها يوما من دون شعر مخضّب بالحناء، أو يدين ملونتين بها. وكانت أحيانا تمعن في استخدامها، فتخضّب باطن قدميها، اعتقادا منها بأن ألمهما سوف يزول، ولكنها كانت تتحوّل إلى كائن خرافي بخضابها، مثل أن تعتقد أنها أم "باتمان" أو زوجته، حين ترى حُمرة رأسها وأطرافها. وكانت جدّتي تستحق جائزةً علميةً رفيعةً، لأنها ابتكرت، بفطرتها، علاقة وطيدة بين ثبات لون الحناء مدة طويلة وعجنها بالشاي الغامق، والذي كانت تتركه يغلى فوق موقدها الصغير حتى "ينقطع نفسه"، ثم تجبل الحنّاء، أي تعجنها بعد أن يبرد. وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن للشاي الأسود الغامق فعالية كبيرة في علاج الشيب وتقليل ظهوره، في حال غسل الشعر به على الدوام. ولذلك تستحق جدتي جائزة على تفكيرها الفطري، ولكنها ربطت بين الحناء وأفراحها، ولوّنت أيامها بالحنّاء حتى مماتها. وقد تركت الوعاء الخزفي الذي يحتوي على الحنّاء المجبولة أسفل خزانتها الخشبية، وكأنها تترك لنا رسالةً بأن نستمر في تلوين أيامنا، فعلى الرغم من أنها كانت تعاني من أكثر من مرض، فهي لم تصل إلى الطبيب، وقلبها كان موجوعا بغياب أولادها وغربتهم وتشتتهم في البلاد البعيدة، بعد احتلال قطاع غزة العام 1967. وكلما سمعت خبرا طيبا عن أحدهم، خضّبت شعرها ويديها وأخمص قدميها، وظلت تشعر بالإنجاز والسعادة وتحدّي المرض والعجز وعدم القدرة على الحركة، حتى ماتت.
هيّا بنا نلوّن أيامنا... لماذا لا نرفع هذا الشعار، ونحن نواجه هذا الكم من المشكلات في عصرنا هذا، فكل شيء يمضي سريعا، وفجأة تفاجئنا أعمارنا بتجاعيد وجوهنا ومشيب رؤوسنا. ولا أحد يحتمل فكرة أننا قد كبرنا إلا أحبتنا. ولذلك علينا أن نبقى أقوياء. نلوّن أيامنا بالرضا والقناعة والأمل، لكي نمضي نحو النهاية بنفسٍ راضية، وقناعة تامة أننا عشنا كما ينبغي، وأننا قاومنا من دون تخاذل، فلا شيء يقتل الروح، ويسرع بها نحو النهاية، مثل الشعور بالضعف وعدم القدرة على المواجهة. دعونا نلوّن أيامنا بالحنّاء، بصبغات الشعر وحتى بحقن البوتوكس والفيلر. دعونا ننظر إلى الغد نظرةً حانيةً، لعله يحنو علينا، ولا يقسو بغابر نوائبه... ما أقسى الأيام إن لم نسارع بتلوينها، هيا بنا، يا رفاق، نلوّن أيامنا..