في الحالتين المصرية والسودانية، تعرف واشنطن أنّ التغيير حصل بانقلاب. وفي المرتين، نأت عن وضعه في هذه الخانة، لترك الباب مفتوحاً أمام التعامل مع الأمر الواقع.
صحيح أنّ أوباما لم يخفِ انزعاجه في البداية من الانقلاب على شرعية مرسي، لكنّه عاد في النهاية إلى الاعتراف بالوضع القائم على الأرض.
إدارة ترامب صرفت النظر عن موضوع الانقلاب في السودان "لأنّنا لا نملك المعلومات الكافية للخروج بتقييم عن الوضع" في الخرطوم، كما قالت وزارة الخارجية، الخميس. ولوحظ أنّ الاعتراضات والتحذيرات ووضع الشروط للاعتراف بالوضع الجديد، غابت عن تعليق الناطقة الرسمية التي كرّرت القول إنّ واشنطن ما زالت "تقوم بمتابعة التطورات في الخرطوم".
وهكذا كانت ردوده على الأسئلة، حيث بقيت في حدود العموميات التي دارت حول ضرورة الاستجابة "لرغبات الشعب السوداني المطلوب سماع صوته والمطالب بعملية انتقالية.. وبحكم مدني بنهايتها".
معزوفة مألوفة تعكس التحفظ أو الحرص على حجب أي دراية مسبقة بما جرى. وكان من اللافت أنّ الناطق الرسمي لم يبدِ قلقاً ملحوظاً على وضع الأميركيين في الخرطوم "الذين طلبنا منهم البقاء داخل أماكن وجودهم هناك"، كما قال. كذلك لم يتوقف عند وضع وزير الدفاع عوض بن عوف الذي قال إنّه "لا جواب لديه عنه الآن"، بالرغم من أنّ اسمه مدرج على قائمة العقوبات الأميركية، وهو متهم بلعب دور في مجازر دارفور.
Twitter Post
|
ومثل هذه الضبابية طبعت أيضاً الانفتاح المثير للتساؤل الذي باشرته إدارة ترامب أخيراً، تجاه الخرطوم، والذي تمثّل بعرض لتخفيف العقوبات، مقابل تعاون النظام في مجال محاربة الإرهاب.
كما جرى حديث عن إمكانية مبادلة السودان، برفع اسمه من قائمة البلدان الداعمة للإرهاب، مقابل تحسين وضعه في مجال حقوق الإنسان.
تحوّل بقي محاطاً بعلامات الاستفهام، مثله مثل الغموض المحيط بالانقلاب، والذي أثار تساؤلات مشروعة من نوع: هل إنّ ما جرى لا يعدو كونه مجرد تسكين لتجريع استبدال البشير برموز من أصحاب البدلة العسكرية نفسها؟ وهل هو تحرّك مفتوح على احتمال انتقال جدي إلى حكم مدني؟
ثمة اعتقاد بأنّ انتقال المواجهة إلى الشارع، استحضر سيناريو "الربيع العربي" وكوارثه، وبما سرّع في الاستدراك قبل فوات الآوان. كما هناك اعتقاد بأنّ مسار أزمة الرئاسة في الجزائر والمخرج السياسي الذي تمّ التوصّل إليه، لعب دوره في التعجيل بحسم الأمر باكراً مع رئاسة البشير.
لكن تجارب "الربيع العربي" تقول إنّ نهاية النظام لا تكفل بالضرورة الدخول في مرحلة انتقالية، فالإسراع بالحسم، وبما أعفى السودان من الانزلاق إلى هاوية الاشتباك الأهلي، ينهي نصف المشكلة.
النصف الثاني الذي لا يقلّ خطورة، هو في وجود فراغ سياسي في الساحة السودانية الخالية من قوى وأحزاب وقيادات سياسية منظمة وناشطة وقادرة على النهوض بتحديات اللحظة الراهنة.
الأمر الذي يترك المبادرة بيد القوات المسلحة التي يهدد استمرار إمساكها بالسلطة، بتكرار تجربة البشير وقبله جعفر النميري.
دوامة كفيلة بإعادة إنتاج الأزمة، مع ما يرافق ذلك من مخاطر تدخلات الخارج، كما هو حاصل في أكثر من ساحة عربية تفتك بها الارتهانات للمصالح المتصادمة على أرضها، ولا سيما أنّ السودان ساحة رخوة مزّقتها الانقسامات والنزاعات وحروب الانفصال، من دارفور إلى الجنوب المنكوب.