وجهة نظر

02 مايو 2018

(Getty)

+ الخط -
أبدت صديقتي العزيزة استنكارها، بأنْ رفعت طرف شفتها العليا، بحيث برز نابُها العلويُّ ناصع البياض، وهي قليلاً ما تقوم بهذه الحركة التي تبدو فيها شرِّيرة، لكنها فعلت ذلك لسبب مهم، من وجهة نظرها؛ وهو توجّه زميلة ابنتها التي أنهت التوجيهيَّ بنجاح العام الماضي، وقرَّرت أن تدرس تصميم الأزياء، على الرغم من أنَّ معدَّلها في التوجيهيّ يؤهِّلها للدراسة في إحدى كليَّات القمَّة، كما يُطلَق عليها، فيما قالت في سعادة: إنها قد اختارت لابنتها كلية الهندسة، فهي تحلم، منذ صغرها أن تراها، وهي تتأبَّط المسطرة الخاصة بالمهندسين، والتي تشبه حرف (T) بالإنكليزية، والتي يتأبَّطها كلُ طالب جامعيٍّ، في يومه الأول في الجامعة، ويبدو أنَّ صديقتي متأثَّرة كثيراً بالأفلام العربية.
لصديقتي العزيزة، وهي تحتل منصباً كبيراً في أحد المصارف، وجهةُ نظرها، فيما يتعلّق بتخصُّص ابنتها المستقبلي. وترى أنها قد أنجزت إنجازاً كبيراً، حين وجَّهت ابنتها إلى دراسة الهندسة، على الرغم من أنَّ لدى ابنتها التي أعرفها جيَّداً ميولا فنية عالية، وكثيراً ما لفتت انتباهي رسوماتُها الجميلة، في دفتر الرسم في المدرسة، ثم بدأت ترسم الأزياء النسائية، من وحي تصميم خيالها. وكنت أنبهر بما تصمِّمُه على الورق، فيما لم تكن أمُّها تلقي بالاً لرسومات ابنتها، والتي علمت، فيما بعد، أنها كانت تشاركها مع زميلتها التي توجَّهت إلى دراسة تصميم الأزياء.
لم أحاول، بالطبع، أن أسأل صديقتي عن رغبة ابنتها في التخصُّص الجامعيِّ الذي وجَّهتها أمُّها له، فلم يكن الأمر بحاجة إلى سؤال، وكنت أعرف أنَّ صديقتي مثل غالبية أولياء الأمور الذين ينظرون بنظرة لا تبعد عن حدود اللقب والمظهر الاجتماعي في اختيار تخصُّصات أولادهم، كما أنَّ الأمَّهات والآباء يطلقون على الابن أو الابنة لقبه، منذ الصِّغَر بقولهم: هذا الدكتور فلان، وهذه المهندسة فلانة، ولسنا بذلك لا نرى الشمس من الغربال، لكنَّنا نتعامى عن الواقع الذي وصل إليه الشباب في الوقت الحالي من بِطالةٍ عالية، ستكون السببَ الأوَّلَ والرئيسيَّ في انهيار المنظومة الأمنية والاقتصادية في أيِّ بلد، ففي الأردن مثلاً التي تُعَدُّ من البلاد العربية المستقرِّة سياسياً، حسبما تُصنَّف، هناك نسبة بطالة عالية بين المهندسات الخرِّيجات، وتصل إلى الضعف بالنسبة للخرِّيجين الذكور، كما أنَّ نسبة المهندسات العاملات تصل إلى 30% فقط بالنسبة للمهندسين العاملين في الأردن.
وعلى الرغم مما نراه من معاناة للخرِّيجات الجامعيَّات، في كلِّ التخصُّصات، إلا أن إصرار الأهل على تخصُّصاتٍ محدودة، تُقوِّيه وتسانده الجامعاتُ التي لا تتوقَّف عن قبول الطلبة، في الأقسام التي أصبح خرِّيجوها بالآلاف، ويعانون من البطالة، بل تحوَّلت الجامعات الخاصة إلى ما يشبه الدكاكين التي تقدِّم العروض والتخفيضات لجذب الزبون.
منذ صغر أولادنا، لم نلفت أنظارهم إلى المدارس المهنية، وجعلنا جُلَّ اهتمامهم مصوَّباً نحو التعليم الجامعي، واستصغرنا التعليم المهني، بل وأصحاب المهن والحرف، ونظرنا إليهم نظرة دونية، وكأن العالم لن يتوقف إن انقرضوا من الحياة، علما أن غياب "السبَّاك" عن بيت في أحد الأحياء سيوقع كارثة بيئية في الحيِّ كله. واستقر في أذهاننا أن الراسبين والأغبياء هم من يصبحون ميكانيكيين في ورش السيارات، على الرغم من أن السيارة من الاختراعات التي يتجسَّد فيها ذكاء البشر، وبحاجة لكائن ذكيٍّ يتعامل معها، فالسيارات الأميركية، على وجه الخصوص، لا يمكن أن تترك بين يدي ميكانيكي يدخن كقاطرة بخارية، بعد أن تسرّب من المدرسة لغبائه، لأن أي زيادةٍ في كمية الزيت الذي تقرّره الشركة المصنعة سوف تتسبب للمحرك بأضرار بالغة، فهذا الميكانيكي لم يدرس أنظمة السيارة وميكانزمات عملها، ولم يوجه التوجيه الصحيح، بل استقبلته أول ورشة سيارات على ناصية الحارة.
ضحكت صديقتي، وقالت: أعرف أنَّ ابنتي سوف تتخرَّج، وتقبع في البيت من دون عمل سنوات، وأنَّ زميلتها سوف تجد عملاً يناسب متطلَّبات العصر، ولكن في النهاية ابنتي تحمل لقب "مهندسة"، ولكل واحد وجهة نظر.
دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.