ماذا لو عاد إلى الحياة؟
من الأفلام العربية المؤثّرة التي لا نتخيّل حدوثها على أرض الواقع، "بريق عينيك". يتناول قصّة زوجة تكتشف خديعة زوجها لها بإخفاء زواجه بأخرى، ولديه طفلٌ منها، فتطلب منه الطلاق، ولكنه يرفض ويسافر، لكي تسقط الطائرة التي استقلّها، ويعتقد الجميع أنه قد مات، وتقرّر أن تنسى الماضي حتى يظهر رجل آخر وتتزوّجه وتعيش معه أجمل أيامها، ولكن الماضي سرعان ما يطرق بابها ويعود زوجها الذي ظنّت أنه ميّت، وحين يعلم بزواجها يتحوّل إلى إنسان منتقم، وتخوض الزوجة معركة قانونية تنتهي بخسارتها وانتقالها إلى ما يُعرف ببيت الطّاعة بطريقة مُهينة، إمعاناً في إذلالها، بعد إقرار المحكمة بطلان زواجها الثاني، وهنا يكمل الزوج الأول انتقامه بإيقاع الطلاق الفعلي عليها.
أثّرت فيّ قصة هذا الفيلم، إلى درجة لا توصف، بسبب ظلم الزوجة، فالزوج العائد إلى الحياة كان يراها خائنة، ونسي خيانته وخداعه لها سنوات، وقد سبق أن تناولت الأفلام العربية والمسرحيات القديمة هذه الثّيمة، أي الزوج العائد إلى الحياة، وحبكوا قصصا ذات طابع كوميدي حولها، بحيث يخوض الزوجان حربا من أجل الظفر بالزوجة المشتركة.
لم ألتقط مثل هذه الواقعة فعليا في قطاع غزة، الذي عشت فيه الجزء الأكبر من سنيّ عمري، وحيث كانت الأعراف تقتضي بأن تتزوّج الأرملة الشّابة من شقيق زوجها لعدّة أسباب: أهمها المحافظة على أطفال الزّوج الراحل، لكي لا ينشأوا في كنف رجل غريب، فلن يكون هناك رجل أكثر حنوّاً عليهم من شقيق الأب. والسبب الثاني أن يكون الزوج الراحل قد ترك ثروة ويخشى ذووه أن تذهب إلى رجل غريب، فيقرّرون تزويج الأرملة من شقيق الزوج حتى لو كان لديه زوجة أولى. ولذلك تصبح الأرملة في مجتمعنا جبهة قتال خطرة لزوجات أشقّائه، تفتح بمجرّد وفاة زوجها. ويبدو أنّ هذه العادة متوارثة منذ زمن بعيد، وحيث اعتاد العرب أن يذهب شقيق الزوج، وبمجرّد أن يموت شقيقه إلى أرملته، وهي لا تزال تبكي وتنوح على زوجها المسجّى، فيُلقي نحوها عباءته دلالةً على أنه سوف يتزوّجها بمجرّد انتهاء عدّتها الشرعية، وإن أمسكت بها ولفّتها حول جسمها بقوّة وإحكام، فهذا دليلٌ على أنها ترغب في أن تصبح زوجة لهذا الشّقيق، رغم أنف زوجته أو زوجاته.
حدثت، أخيراً، قصة غريبة تؤكد لي أن الفيلم الذي رأيته في ثمانينيات القرن الماضي قرّر أن يتكرّر في أحلك ظروف غزة، وحيث تزوّجت أرملة من شقيق زوجها الذي ظنّ الجميع أنه قُتل في الحرب، وذلك بسبب اختفائه منذ الأيام الأولى، وعدم وجود أي خبر عنه يفيد عكس ذلك، وقد سارع أهل الزوج بتزويجها من شقيقه، لأن الزوجة فقدت كل عائلتها ولم يبقَ لها مكان تذهب إليه، فبقيت مع أهل زوجها حتى انقضت عدّتها الشرعية، فعقدوا قرانها على ابنهم الثاني، والذي لم يسبق له الزواج، حفاظا على أرملة ابنهم الذي فجعوا به، وحفاظاً على أطفاله أيضا. ومرّت الأيام، وظلّت العائلة تنزح من مكان إلى مكان، حتّى ظهر الابن العائد إلى الحياة، فقد تبيّن أنه كان معتقلا في سجون الاحتلال، وهنا حلّت الكارثة، والتي لم تُعرف نهايتها بعد.
في غزة، وبسبب هذه المقتلة الجنونية، هناك أعداد لا تُحصى لمفقودين يجهل أهلهم مصيرهم، ومنهم من مات فعلا، وتحلّلت جثّته تحت الأنقاض، أو مات في سجون الاحتلال. وفي كل حالة هناك دليل قاطع على موت الابن، واستحالة عودته إلى الحياة، أمّا بؤس الواقع الذي يدفع زواج أرملة من شقيق زوجها من دون أن ترى جثّة أو أشلاء أو بقايا متحلّلة، فهذه واحدة من تداعيات الحرب المؤسفة والموجعة، مع غياب إحصائيات مؤكّدة حول الموتى والمفقودين، والتي تُضاف لقائمة طويلة من المعضلات التي تواجه المجتمع الغزّي، وتحتاج إلى حلٍّ سحري لتجاوزها.