إلى هنا تبدو الحكاية في رواية وليد الشرفا الأخيرة "وارث الشواهد" (الأهلية) مألوفة لكثرة ما خاطت مثلها منازل الفلسطينيين، لولا الحفر العميق الذي قامت فيه الرواية زمكانيا وانفتاح النص على عدد كبير من التأويلات، بالإضافة لتشابكه مع تعقيدات واقع فلسطينيي الداخل.
تتألف الرواية (وهي الثانية للكاتب ورابع كتبه المنشورة)، من مجموعة من الشهادات أو المرافعات (كون جزء كبير منها يجري في أجواء المحاكمة)، فيبدأ الفصل الأول بمرافعة الوحيد، بطل الرواية ونبيّها وعازفها. بطلها لأسباب تتعلق بتقنيات الرواية، ونبيّها لأسباب تتعلق بالفلسطينيّ المبشِّر الذي يحمل صفات النبوّة، فلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، شبيه بطل رواية "البحث عن وليد مسعود". وعازفها لأسباب تتعلق بموسيقى شهادته ذات الضربات السريعة، ولغته. يمتد الفصل الأول على أكثر من 55 صفحة مشكلا نص الرواية الأصليّ أو متنها، لا لطوله مقارنة مع ما بعده من الفصول فقط، ولكن لأنه يقول كل شيء.
يجعل الكاتب من الفصول التي تلي مرافعة الوحيد، إضاءات إضافية بمثابة نصوص هامشية
وحواش على نص الوحيد المقدس. تنتهي شهادة الوحيد فتنتهي معها الرواية، إذ بالرغم من أهمية باقي الفصول إلا أنها تبقى في إطار التوضيح، ومعالجة المشهد من زوايا أخرى.
يقف الفلسطينيّ في الرواية - وفي التاريخ أيضا - كما وقف الشاعر الجاهليّ: "تَكَاثرَتِ الظّبَاءُ على خِرَاشٍ.. فما يدري خِراشٌ ما يصيدُ". يقف الفلسطيني، ولكنه الضحيّة هذه المرّة، وقد تكالبت عليه الروايات والحكايات. الفلسطينيّ الذي يدفع ثمن تاريخ المقدس. وهو نفسه - أي التاريخ - شهادة زور الحاضر، ونرجسية الدليل، كما يقول المؤلف.
تكبر مساحة المقبرة في الرواية، على حساب مساحة البيوت المهجّرة. بيوت عين حوض، ليست بيوتا عادية، إنها اللوحة الفنيّة التي تعلّم الآخرين الفن، وتكبر بمعناها المجازيّ، كتحقيق لمقولة "ضحايا النكبة والتهجير". وتكبر الكوابيس على حساب الأحلام، الكوابيس تصيب الجميع، تؤرقهم، من القضاة اليهود، وحتى النبيّ "الوحيد"، وبمعناها المجازيّ - مرة أخرى - متمظهرة بأحلام اليقظة، والاستدعاءات الحوارية التي قد تصاحب الكثير من نقاشات الأصدقاء في الرواية.
ينهي صاحب "القادم من القيامة" روايته بترجمة يقوم بها الدكتور بشارة، صديق الوحيد، لرسالة كتبتها ريبكا جونسون، زوجة الوحيد. إنها عمليّة جراحية لغوية، إنها ترجمة تنقل الندى مع الصباح، وقبل أن تنقل الطعام تنقل الطعم. إنها لعبة خطرة، محاولة لنقل "الحالة" في المجال الطبي إلى "حكاية" في المجال التاريخي، ولأسباب يقدمها الكاتب ويسردها الطبيب، ينجح.
تطرح الرواية فكرة "التعايش" ثم تحطمها، إن حالة "الوحيد" ليست وحيدة، إنها إحدى آلاف مآسي الوطن الجريح. يقول بطل الرواية: "هنا مئات الشواهد، وهناك في عكا الآلاف، وفي يافا مثلها وغيرها". ثم تطرحها مرّة أخرى مع بشارة وجارته الشقراء اليهودية، لتنتهي القصة هكذا: "وحدها تلقيحات روايات الرب في عقول اليهود تحولت إلى عِرق، وبعد اختراع البارود تحولت إلى جغرافيا، سبحان الرب!".
- أخيراً - يرسم الشرفا سراب حلم إسرائيل في "الأسرلة" ثم يبدده. صحيح أن الكبار يموتون، ولكن الكبار جرحوا، والصغار هم الجروح.