يأتي الخريف بعكازه المكسور، بصوت ريحه وهي تنادي، وتبحث، وتجن، وتخلع كل ما يمر بها، الريح الوحيدة والحزينة، الريح اليتيمة والجائعة، الريح التي تمر بالأشجار وتحمل معها صوت صراخ كل ورقة صفراء؛ وهي تصارع كثيراً قبل أن تسقط.
يأتي الخريف، وتمر ريحه بالشوارع ، تكنس الأوراق الساقطة، وتكنس قلوب المارة وأقدامهم، تمر بالنوافذ، تعصف، لكنها حين تجد نافذة مفتوحة فإنها تتمنى لو أنها تدخل، لو أنها تجد فراشا دافئا كي تتسلل إليه وتختبئ فيه ، لو أنها تستمع لحكايا الأمهات لأطفالهم، لو أنها تستطيع أن تجرب مرة هذا النعاس اللذيذ الذي يغفو بعيون الأطفال مع حكاية ما قبل النوم.
أما حين نغلق النوافذ بوجهها جيدا فإنها تغضب كثيرا، وتصبح عصبية أكثر وتحاول أن تكسر أبوابنا ونوافذنا قبل أن تحمل غضبها وترحل.
يأتي الخريف، لكنه حين يمر بالسوريين لا يصدق عينيه، يغمضهما ثم يعود ويفتحهما، ولا يصدق مرة ثانية، يفرك عينيه بأغصان أشجاره، لكنه يعود ويفتحهما، يشهق، بصوت لم تعرفه رياحه من قبل، صوت مثل صوت ذئب جريح، مثل صوت أم هذا الذئب الجريح.
كانت الريح تعرف أنها تكنس الأوراق في الزوايا، لكنها لم تتخيل يوما أنه سيكون عليها أن تكنس جثث الأطفال وجثث ألعابهم من تحت الركام، وكانت تعرف أنها تحمل أصوات الأوراق الصفراء قبل أن تسقط عن أغصانها، لكنها لم تتخيل أنها ستحمل يوما أصوات صراخ القابعين هناك تحت الأرض في زنازين التعذيب، وآخر تنهيداتهم قبل أن تأخذهم يد الموت الرحيمة. ولم تصدق أن عليها أن تحمل صوت قلوب الأمهات وهي تسقط مع الشهداء في تلك القبور، وتزغرد زغرودة الموت القاتلة، أو أنها ستملأ بغبار قلوب الحبيبات العاشقات حين يرحل العشاق، ويبدلون حرير سرير العشق بكفن أبيض مثل الموت، وحين يبدلون شفاه الحبيبات بالتراب.
يأتي الخريف، ويمر كعادته على الشواطئ التي كان يحمل الزبد إليها مثلما يحمل إليها الأشرعة، لكنه يجد أن البحر قد غرق في عيون طفل سوري لم يزل نائما هناك، طفل نسي دميته في قلب البحر، ويجد أنه لم يعد هناك من بحر على هذه الأرض، فقط كل ما بقي هو صخور مشققة تعلوها طحالب عفنة، يحاول الخريف أن يهرب من كل هذا، لكن عيون الغرقى تلاحقه، أصواتهم تحبس رياحه، وتطعهما موتا مالحا.
يأتي الخريف إلى السوريين، ولا يجد نوافذ كي يدخل منها أو حتى كي يغضب ويكسرها، ولا يجد أبوابا كي يقتحمها، ولا حكايات للأطفال، ولا أطفال، ولا أمهات، ولا حتى أوراقا صفراء ترضي غروره.
يأتي الخريف إلى السوريين ليجد أن خريفا آخر قد سبقه، خريفا يقتلع الأظافر والحناجر، خريفا ينزع عن الحياة حياتها، ويخلع الأحلام عن العيون، خريفا برياح من بارود، بطائرات ورقية لكنها ترمي البراميل الثقيلة القاتلة، بأمهات يروين الحكايا للأطفال في القبور، بأطفال ينامون على قبور الأمهات، وبموت ذاهب للمدرسة.
يأتي الخريف ولا يأتي، يخاف أن تسأله طفلة عن والدها الذي وعدها أن يعود في الخريف، ويخاف أن تسأله الأرض عن أشجارها، عن عصافيرها، عن زهر تشرين، عن لون الستائر في البيوت، عن دفاتر الأولاد، عن شغبهم في أول يوم للمدرسة، عن سهر العائلة في لياليه، عن صوت البيوت وهي تنادي أصحابها، عن ورود الشرفات، عن المؤونة المعلقة في زوايا البيت، عن الأسود الذي يملأ كل حبال الغسيل، عن حضور الغياب القاسي، عن قسوة الخريف حين يعود بلا صاحب البيت.
لا يأتي الخريف، ولا تأتي الريح، هي فقط أصوات المشردين الراحلين عن حياتهم؛ وهي أصوات زغاريد الأعراس التي لا تنتهي.
يأتي الخريف، وتمر ريحه بالشوارع ، تكنس الأوراق الساقطة، وتكنس قلوب المارة وأقدامهم، تمر بالنوافذ، تعصف، لكنها حين تجد نافذة مفتوحة فإنها تتمنى لو أنها تدخل، لو أنها تجد فراشا دافئا كي تتسلل إليه وتختبئ فيه ، لو أنها تستمع لحكايا الأمهات لأطفالهم، لو أنها تستطيع أن تجرب مرة هذا النعاس اللذيذ الذي يغفو بعيون الأطفال مع حكاية ما قبل النوم.
أما حين نغلق النوافذ بوجهها جيدا فإنها تغضب كثيرا، وتصبح عصبية أكثر وتحاول أن تكسر أبوابنا ونوافذنا قبل أن تحمل غضبها وترحل.
يأتي الخريف، لكنه حين يمر بالسوريين لا يصدق عينيه، يغمضهما ثم يعود ويفتحهما، ولا يصدق مرة ثانية، يفرك عينيه بأغصان أشجاره، لكنه يعود ويفتحهما، يشهق، بصوت لم تعرفه رياحه من قبل، صوت مثل صوت ذئب جريح، مثل صوت أم هذا الذئب الجريح.
كانت الريح تعرف أنها تكنس الأوراق في الزوايا، لكنها لم تتخيل يوما أنه سيكون عليها أن تكنس جثث الأطفال وجثث ألعابهم من تحت الركام، وكانت تعرف أنها تحمل أصوات الأوراق الصفراء قبل أن تسقط عن أغصانها، لكنها لم تتخيل أنها ستحمل يوما أصوات صراخ القابعين هناك تحت الأرض في زنازين التعذيب، وآخر تنهيداتهم قبل أن تأخذهم يد الموت الرحيمة. ولم تصدق أن عليها أن تحمل صوت قلوب الأمهات وهي تسقط مع الشهداء في تلك القبور، وتزغرد زغرودة الموت القاتلة، أو أنها ستملأ بغبار قلوب الحبيبات العاشقات حين يرحل العشاق، ويبدلون حرير سرير العشق بكفن أبيض مثل الموت، وحين يبدلون شفاه الحبيبات بالتراب.
يأتي الخريف، ويمر كعادته على الشواطئ التي كان يحمل الزبد إليها مثلما يحمل إليها الأشرعة، لكنه يجد أن البحر قد غرق في عيون طفل سوري لم يزل نائما هناك، طفل نسي دميته في قلب البحر، ويجد أنه لم يعد هناك من بحر على هذه الأرض، فقط كل ما بقي هو صخور مشققة تعلوها طحالب عفنة، يحاول الخريف أن يهرب من كل هذا، لكن عيون الغرقى تلاحقه، أصواتهم تحبس رياحه، وتطعهما موتا مالحا.
يأتي الخريف إلى السوريين، ولا يجد نوافذ كي يدخل منها أو حتى كي يغضب ويكسرها، ولا يجد أبوابا كي يقتحمها، ولا حكايات للأطفال، ولا أطفال، ولا أمهات، ولا حتى أوراقا صفراء ترضي غروره.
يأتي الخريف إلى السوريين ليجد أن خريفا آخر قد سبقه، خريفا يقتلع الأظافر والحناجر، خريفا ينزع عن الحياة حياتها، ويخلع الأحلام عن العيون، خريفا برياح من بارود، بطائرات ورقية لكنها ترمي البراميل الثقيلة القاتلة، بأمهات يروين الحكايا للأطفال في القبور، بأطفال ينامون على قبور الأمهات، وبموت ذاهب للمدرسة.
يأتي الخريف ولا يأتي، يخاف أن تسأله طفلة عن والدها الذي وعدها أن يعود في الخريف، ويخاف أن تسأله الأرض عن أشجارها، عن عصافيرها، عن زهر تشرين، عن لون الستائر في البيوت، عن دفاتر الأولاد، عن شغبهم في أول يوم للمدرسة، عن سهر العائلة في لياليه، عن صوت البيوت وهي تنادي أصحابها، عن ورود الشرفات، عن المؤونة المعلقة في زوايا البيت، عن الأسود الذي يملأ كل حبال الغسيل، عن حضور الغياب القاسي، عن قسوة الخريف حين يعود بلا صاحب البيت.
لا يأتي الخريف، ولا تأتي الريح، هي فقط أصوات المشردين الراحلين عن حياتهم؛ وهي أصوات زغاريد الأعراس التي لا تنتهي.