يحدث في موريتانيا
رشّح الرئيس الموريتاني السابق، محمد ولد عبد العزيز، صديقه ورفيقه في السرّاء والضرّاء، الرئيس الحالي الجنرال محمد ولد الشيخ الغزواني، ليحل محله. ولا عجب في ذلك، فالأول يثق بالثاني ثقة مطلقة، وهو الذي دبّر معه آخر انقلاب عسكري أطاح الرئيس المدني، محمد ولد الشيخ عبد الله، الذي جاءت به إلى الحكم انتخاباتٌ لا تخلو من كلام، بعد فترة انتقالية نحو سنتين، كان الرجل القوي فيها الجنرال المتقاعد والرئيس السابق، محمد ولد عبد العزيز. ومن دواعي الثقة بينهما أيضاً، أن الرئيس الحالي ضمن تسيير أمور البلد في الفترة التي كان فيها صديقه مريضاً على إثر طلق ناري في "حادثة أطويلة"، حسبما صارت تُعرف.
ساند الرئيس السابق ترشّح صديقه ووزير دفاعه في حملة الأخير في الانتخابات الرئاسية، ودعا منتسبي حزبه، الاتحاد من أجل الجمهورية، إلى التصويت له بكثافة باعتباره استمراراً للنهج الذي كان يسيّر البلد، بغية الحفاظ على المكتسبات التنموية، تنظيم الحالة المدنية (البصمة البيومترية)، وتغيير الدستور والعلم والنشيد الوطني، وحلّ مجلس الشيوخ (ثاني غرفتي البرلمان)، واستكمال المشاريع النهضوية التي يجري العمل فيها، كالطرق ومحطات الكهرباء والمدارس والمستشفيات.
ملف استجواب الرئيس السابق سيلقي بظله بكثافة على مجريات الأحداث في موريتانيا
نجح الرئيس الحالي وهنأه الرئيس السابق وتسلّم من الأخير مقعد الرئيس، متمنياً له كل النجاح والتوفيق في مهامه الجديدة. سافر الرئيس السابق خارج البلد، وقضى ثلاثة أشهر ورجع، غير أن بوادر الخلاف بين الرجلين بدأت تتكشف شيئاً فشئياً منذ الاحتفال بعيد الاستقلال الوطني، الذي حضره، لأول مرة في تاريخ الدولة الموريتانية، الرؤساء السابقون الموجودون في البلد، باستثناء رفيق الدرب، وهو آخرهم. وقد عزا محللون ذلك إلى حضور المعارضة التي كان الرئيس السابق يصفها بأبشع الصور، حتى آخر أيامه في الحكم.
وفي السياق ذاته، التقى الرئيس محمد ولد الغزواني أطياف المعارضة الوطنية، وتشاور معهم وأشركهم في إدارة أزمة كورونا، وأعرب عن استعداده لتوسيع دائرة التشاور معها، لتشمل القضايا الوطنية الكبرى، كالوحدة الوطنية وقضية آثار الرّق ومؤسسة المعارضة والأحزاب السياسية واللجنة المستقلة للانتخابات ومحاربة الفساد. إضافة إلى ما سبق، واتفق الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مع ممثلي المعارضة على تشكيل لجنة تحقيق برلمانية، تبحث في ملفات فساد كثر الحديث عنها، في ظل تسيير الحكومات المتعاقبة خلال العشرية الأخيرة من حكم البلاد. وقد شكل عزم الرئيس السابق على ممارسة السياسة تطوراً سرّع من تفاقم الخلاف بين الرفيقين، بالإضافة إلى ما تلا ذلك، زيارة مقرّ حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الذي كان يرأسه، ويحمل أول بطاقة انتساب له، وقد تخلى عنه معظم داعميه السابقين، وانحازوا إلى غريمه. ولعل محاولة الدخول من خلال أحد أحزاب الموالاة المشهور بالتعاون مع المرشحين من خارجه في الساحة السياسية، وفتحه مقرّاً جديداً له كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير، حيث داهمت الشرطة مقر الحزب، وأجبرت من كانوا فيه على إخلائه وأغلقته، متعللة بإخلال الحزب بإجراءات متعلقة بتغيير هيكله التنظيمي.
الأشهر المقبلة ستكشف عن حقيقة أمرٍ تشابكت فيه عوامل السياسة والأمن والمال. ويظل الأمل معقوداً على العدالة
وكان البرلمان الحائز الأغلبية قد صدّق على تشكيل لجنة التحقيق التي اقترحتها المعارضة، فباشرت لجنة التحقيق البرلمانية عملها في جوٍّ يسوده الاستقطاب الذي يراوح أهله بين التفاؤل المفرط والتشاؤم المحبط، في ما سينجم عن تقريرها. ومع ذلك، يوجد فريق آخر يتوسّط القطبين اللذين يتجاذبانه، ويرى في اللجنة لبنة مهمة في تعزيز بناء مؤسسات الدولة، ولكنه لا يرفع سقف التوقع كثيراً، لاعتباراتٍ تتعلق بالواقعية والمعرفة الجدّية بالتحدّيات الحقيقية التي تواجه هذه اللجنة.
أكملت اللجنة تقريرها الملخص في 120 صفحة، ونحو 500 صفحة مع الملحقات. واستعانت بخمسة قضاة من محكمة الحسابات، وبمكتبي استشارات دوليين لدراسة وتعميق البحث في عشرة ملفات رئيسية، ترى أن تسييرها شابه الفساد خلال العشرية الماضية، وتشمل صفقات عمومية واتفاقيات وتسيير بعض المشاريع المتعلقة بمجالات الصيد والمعادن والبنية التحتية والعقارات. وتجدر الإشارة إلى أن موريتانيا تحتل المرتبة الـ137 من أصل 198 دولة، حسب مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لسنة 2019. ويعتمد هذا المؤشّر على تقييمات المحللين، أو المسوحات في 13 مؤسسة مرموقة في العالم، تشمل بيت الحرية والبنك الولي ومنتدى الاقتصاد العالمي والبنك الأفريقي للتنمية والمعهد الدولي للتنمية الإدارية.
موريتانيا تحتل المرتبة الـ137 من أصل 198 دولة، حسب مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية
واشتمل تقرير لجنة التحقيق البرلمانية على وصفٍ مفصلٍ في الملفات المعنية وبالجهات المسؤولة عنها، من دون ذكر أسماء الأشخاص، والاكتفاء بذكر وظائفهم. ووافق البرلمان على التقرير، وأحاله على وزارة العدل. ونظراً إلى أن بعض أعضاء الحكومة ورد ذكر وظائفهم واحتمال الاشتباه فيهم بقضايا الفساد، فقد استقالت الحكومة، وحلّت محلها أخرى جديدة، خرج أغلب أعضائها من رحم الحكومات السابقة التي عملت في ظل حكم المؤسسة العسكرية بالفعل أو بالقوة. أسرعت النيابة بالإجراءات، وبدأ التحقيق الابتدائي مع الأشخاص المشتبه فيهم. وقد رافق بدءَ التحقيق سيلٌ من الإشاعات والإشاعات المضادة بخصوص نشاطات الرئيس السابق الجنرال محمد ولد عبد العزيز وممتلكاته، وانتهت بأن استدعته إدارة أمن الدولة ولا يزال في عهدتها، حسب مصادر متطابقة. ومع شحّ المعلومات الدقيقة عن سبب الاستدعاء والحجز، أفادت مصادر صحافية موثوقة بأن رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان التقى الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، الموجود لدى الأمن، لاستجوابه بخصوص ملفات تتعلق بتسييره البلاد، للطمأنينة على ظروف حجزه الذي يمكن أن يطول حسب مراقبين. كذلك التقى الرئيس السابق وزير العدل ورئيس الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب، إضافة إلى محاميه وبعض أفراد أسرته. وأفاد أحد محاميه بأن ظروف الحجز كانت سيئة للغاية، حيث أمضى ليلته الأولى في غرفةٍ غير مكيفة، وليس فيها ما يحمي من البعوض. وأفاد أحد محامي الرئيس السابق بأن موكله رفض الإجابة عن أسئلة المحققين، وخصوصاً الأسئلة المتعلقة بالملف الأمني، واحتج على استجواب الشرطة له، مشيراً إلى أن ذلك من اختصاص محكمة العدل السامية وحدها، بصفته رئيساً سابقاً للجمهورية. ويبدو أن ملف استجواب الرئيس السابق سيلقي بظله بكثافة على مجريات الأحداث في موريتانيا. ويبقى التوجس سيد الموقف في انتظار استكمال عملية التحقيق الابتدائي التي يبدو أنها ستطول، بفعل تشعب ملف الفساد وكثرة المعنيين المحتملين به، من جهة، ودخول الملف الأمني للرئيس السابق على الخط، من جهة أخرى.
ألا يمكن أن توقف السلطة الحالية نهب الثروة السمكية الذي يجري على مدار الساعة من دون رقيب؟
ويبقى السؤال المطروح عمّا سيستفيده الشعب الموريتاني من كل هذه العملية؟ وهل ستعود أمواله المنهوبة؟ أم أن هذه عملية إخراج لحلقة جديدة قديمة من مسلسل استمرار المؤسسة العسكرية في الحكم، بعد أن تقاعد بعض قوادها (الرئيسان الحالي وسلفه) ودخلوا من المظاهر المدنية والانتخابات الإجرائية؟ ولما إذا لم يشمل التحقيق أشخاصاً معروفين بقربهم من الرئيس السابق، واستفادتهم منه في صفقات تجارية كبيرة وكثيرة؟ هل لأنهم أبلوا بلاءً حسناً في الحملة الرئاسية للرئيس الحالي، أم لأن بعضهم تربطه به علاقات جهوية؟ ولماذا لم يشمل التحقيق أشخاصاً يشتبه في ضلوعهم بملفات فساد وأمن ساخنة، مثل فضيحة البنك المركزي والاعتداء على مقرّات المحكمة ومكاتب وزارة المالية؟
الأيام المقبلة، وربما الأشهر المقبلة، هي التي ستكشف عن حقيقة أمرٍ تشابكت فيه عوامل السياسة والأمن والمال. ويظل الأمل معقوداً على العدالة، على الرغم من التحدّيات التي تواجهها على مستوى الاختصاص التشريعي والقدرات البشرية والمخصصات المالية. وقد صرّح الرئيس الغزواني بأنه لن يتدخل في عمل العدالة، وسيعمل على جعلها مستقلة، على الرغم من أنه هو رئيسها ورئيس السلطة التنفيذية في الوقت عينه، فهل ستتمكّن العدالة من القيام بعملها من دون تشويش؟ في انتظار ذلك الوقت، ألا يمكن أن توقف السلطة الحالية نهب الثروة السمكية الذي يجري على مدار الساعة من دون رقيب، وترسي أسس الشفافية في الصفقات العمومية (صندوق كورونا) والتعيينات (بمعايير الكفاءة فقط والابتعاد عن الولاء السياسي) ولنخفض تكاليف الإدارة المترهلة (عدد الوزراء، الأمناء العامون، المكلفون بغير مهام، المستشارون الذين لا يستشارون...)، السفراء، ورؤساء مجالس إدارات المؤسسات؟ ولتضع أسساً صلبة لسياساتنا التنموية، وخصوصاً الداخلية والخارجية.