05 نوفمبر 2024
يوميات فيرجينيا وولف
في عمله، "الكتاب القادم"، يفرد الكاتب موريس بلانشو فصلا صغيرا لـ "اليوميات" التي نُشرت بعد رحيل الكاتبة المعروفة فيرجينيا وولف، وهي مكوّنة من 26 دفترا، جُمعت في مؤلّف واحد أو مؤلّفين، وغطّت جزءا كبيرا من حياتها منذ كانت في الخامسة عشرة من عمرها، أي بعد عامين من وفاة أمّها، وحتى إقدامها على الانتحار في العام 1941. وبغضّ النظر عن كلّ ما كُتب وقيل في اليوميات التي باتت تشكّل جزءًا أساسيًا من نتاج الكاتبة الأدبي، والتي يُجمع معظم قرّائها على أهميتها في كشف حياتها الخارجية بجوانبها السياسية والاجتماعية، كما الداخلية والنفسية بمناطق خللها وتفرّدها، ناهيك بعلاقتها الاستثنائية بالكتابة كفعل حياة؛ فإن بلانشو هو من القلائل الذين يشيرون، بموضوعية وعمق، إلى بعض النواحي التي غالبا ما تغفَل عند تناول اليوميات احتراما لسطوة الموت.
يقول بلانشو: "اليوميات مؤثّرة جداً، إنما قراءتها مُضنية، ولا بد أن يستاء القرّاء غير العطوفين من رؤية فيرجينيا وولف التي يحبّون، مهووسةً إلى هذه الدرجة بالنجاح، فرحةً إلى هذا الحدّ بالمديح، سخيفةً لحظة فرحها بالاعتراف بها، ومجروحةً حين لا تكون كذلك. أجل، هذا مفاجئ، مؤلم، وغير مفهوم تقريباً. هناك شيءٌ غامضٌ في الصلات التي يقيمها كاتبٌ بمثل تلك الحساسية مع تبعية بمثل تلك الفظاظة. وفي كل مرة، ومع كل كتاب جديد، المأساة التي تعيها الكاتبة جيدا هي نفسها (...) وفجأة يلوح المَخرج: ذلك الموت الذي اختارته، والذي جاء ليأخذ مكانَ الجمهور، ويمنحها الإجابة الصحيحة التي لطالما انتظرتها".
وبالفعل، كانت وولف حسّاسة جدا، وغيورةً من نجاحات الآخرين، بدليل رأيها السلبي جداً في رواية "عوليس" جيمس جويس، وفي أعمال ك. مانسفيلد، وإن كانت لاحقا قد عبّرت عن أسفها بهذا الشأن. أيضا كانت فيرجينيا التي ارتبطت بصداقاتٍ مهمّة مع نخبة النقاد والكتاب والفنانين في عصرها حسّاسة جدا حيال تقييماتهم لكتابتها، حيث تذكر، في يومياتها، أنها كانت تتوقع ما ستكون عليها آراؤهم، وتنتظرها بحماسة وخشية، ما يدفعها إلى الهرب منهم في بعض الأحيان.
بالطبع، لم تكن فيرجينيا وولف ساذجة، أو غبية أو سخيفة. ولم يكن اضطرابها وقلقها ناتجيْن من رغبتها بنيل الإعجاب أو بتحقيق النجاح فحسب، بل كان ذلك ناتجا خاصة من شكّها في موهبتها، وتشكيكها في مقدراتها، إذ يعلّق بلانشو قائلا: "الضعف هذا قائمٌ في موهبتها نفسها، هي التي كتبت في يومياتها: "ربما أنا لست واثقة من مواهبي"، وكانت حينها في ذروة عطائها بعد نشرها أهمّ أعمالها (مسز دالاواي، إلى المنارة، الأمواج)" وإذ ندرك أن الشكّ هذا هو ما عانى ويعاني منه كل كاتب حقيقيّ، لا بد من تذكّر غوته الذي بلغ الأربعين من العمر كاتبا مشهورا، ومتسائلا إن لم يكن في الحقيقة فنانا تشكيليا أو دارسا للطبيعة، أكثر منه شاعرا، وكذلك بول كلوديل الذي كتب لأندره جيد فور إتمامه "الرهينة": "التجربة الماضية لا تفيد بشيء، كل عمل جديد يطرح مشكلات جديدة نشعر حيالها بكل التردّد والحيرة والقلق التي يشعر بها مبتدئ، إلى جانب بعض التسهيلات الخائنة التي تجب السيطرة عليها".
هذا كلّه كانت تعاني منه فيرجينيا وولف، وتعبّر عنه في "اليوميات"، بل إنها تقول عن عملها بوضوح: "أريد إرغام نفسي على مواجهة أنه لا يوجد شيء، لا شيء لأيّ منّا. أن نعمل، نقرأ، نكتب، ليست إلا أفعالا تنكّرية، كما هي العلاقات مع الناس. أجل، حتى إنجاب الأطفال لا يفيد بشيء".
هذا الرواح والمجيء بين الشك واليقين لا بد أن يسلكه كل كاتب حقيقي، بتفاوتٍ وعلى درجات، وهو ما تبيّنه ملاحظات يوميات كثر من الأدباء الكبار الذين انتهوا محترقي الأرواح، وحيدين، كئيبين أو منتحرين من أمثال بافيزي، بيسّوا، همنغواي، سيلفيا بلاث، ماياكوفسكي، شتيفن زفايغ، وسواهم.
أيكون هذا هو شرط الإبداع الحقيقي، ثمنه؟ مملكة الحياة مقابل حصان الموهبة؟
وبالفعل، كانت وولف حسّاسة جدا، وغيورةً من نجاحات الآخرين، بدليل رأيها السلبي جداً في رواية "عوليس" جيمس جويس، وفي أعمال ك. مانسفيلد، وإن كانت لاحقا قد عبّرت عن أسفها بهذا الشأن. أيضا كانت فيرجينيا التي ارتبطت بصداقاتٍ مهمّة مع نخبة النقاد والكتاب والفنانين في عصرها حسّاسة جدا حيال تقييماتهم لكتابتها، حيث تذكر، في يومياتها، أنها كانت تتوقع ما ستكون عليها آراؤهم، وتنتظرها بحماسة وخشية، ما يدفعها إلى الهرب منهم في بعض الأحيان.
بالطبع، لم تكن فيرجينيا وولف ساذجة، أو غبية أو سخيفة. ولم يكن اضطرابها وقلقها ناتجيْن من رغبتها بنيل الإعجاب أو بتحقيق النجاح فحسب، بل كان ذلك ناتجا خاصة من شكّها في موهبتها، وتشكيكها في مقدراتها، إذ يعلّق بلانشو قائلا: "الضعف هذا قائمٌ في موهبتها نفسها، هي التي كتبت في يومياتها: "ربما أنا لست واثقة من مواهبي"، وكانت حينها في ذروة عطائها بعد نشرها أهمّ أعمالها (مسز دالاواي، إلى المنارة، الأمواج)" وإذ ندرك أن الشكّ هذا هو ما عانى ويعاني منه كل كاتب حقيقيّ، لا بد من تذكّر غوته الذي بلغ الأربعين من العمر كاتبا مشهورا، ومتسائلا إن لم يكن في الحقيقة فنانا تشكيليا أو دارسا للطبيعة، أكثر منه شاعرا، وكذلك بول كلوديل الذي كتب لأندره جيد فور إتمامه "الرهينة": "التجربة الماضية لا تفيد بشيء، كل عمل جديد يطرح مشكلات جديدة نشعر حيالها بكل التردّد والحيرة والقلق التي يشعر بها مبتدئ، إلى جانب بعض التسهيلات الخائنة التي تجب السيطرة عليها".
هذا كلّه كانت تعاني منه فيرجينيا وولف، وتعبّر عنه في "اليوميات"، بل إنها تقول عن عملها بوضوح: "أريد إرغام نفسي على مواجهة أنه لا يوجد شيء، لا شيء لأيّ منّا. أن نعمل، نقرأ، نكتب، ليست إلا أفعالا تنكّرية، كما هي العلاقات مع الناس. أجل، حتى إنجاب الأطفال لا يفيد بشيء".
هذا الرواح والمجيء بين الشك واليقين لا بد أن يسلكه كل كاتب حقيقي، بتفاوتٍ وعلى درجات، وهو ما تبيّنه ملاحظات يوميات كثر من الأدباء الكبار الذين انتهوا محترقي الأرواح، وحيدين، كئيبين أو منتحرين من أمثال بافيزي، بيسّوا، همنغواي، سيلفيا بلاث، ماياكوفسكي، شتيفن زفايغ، وسواهم.
أيكون هذا هو شرط الإبداع الحقيقي، ثمنه؟ مملكة الحياة مقابل حصان الموهبة؟