05 نوفمبر 2024
يوم 13 أبريل 1975، أين كنت؟
من مشاريعي الدائمة، مستحيلة التحقيق، أن أسأل كل لبناني أين كان يوم 13 إبريل/نيسان 1975؟ ما كانت أحلامه ومشاريعه وحياته حينذاك، أي قبل ساعات من انفجار الحرب الأهلية التي ستدوم أعواماً طويلة، والتي قد يتفق اللبنانيون على كل شيء، إلا على أنها انتهت إلى غير رجعة.
ندرك، نحن اللبنانيين الذين دفعنا أثماناً باهظة ولم نتّعظ، أن أمراء الحرب والطوائف أوقفوا الحرب بقرار إقليمي ودوليّ، أصدروا عفواً عاماً بحق أنفسهم، وجلسوا في السلطة التي لن يتخلّوا عنها في مدى منظور. جلسوا من دون أن يتلوا فعل الندامة، من دون يتغيّروا، وإن فعلوا، فبنسبة ضئيلةٍ، لا تضير استمرار حربٍ غير معلنة، ولا تعيق حتى إمكانية اشتعالها، حين يتوفر القرار والسلاح.
يوم 13 نيسان/إبريل 1975، كان يوم أحد. أذكر أنه كان عرس إحدى بنات العمومة، في كنيسة غدت خط تماسٍ، يقسم بين ما سُمّي بيروت الغربية والشرقية. حادثة البوسطة لم تكن بعيدة، وخيط الدم الذي بدأ نزفه الطويل من هناك، أتخيّله دائماً سائراً حتى المذبح، حيث وقفت العروس، مبللاً أطراف طرحتها الطويلة البيضاء. في ذاكرتي، كان ذاك كأنه آخر عرس أقيم في لبنان، قبل أن تعتم الدنيا، وتدخل البلاد في ليل طويل.
هذه الحرب التي عشتُ ثلثيها حاضرة، وثلثها الأخير غائبة، سمّمت ذاكرتي. أحداثها تتنقّل، وتتخالط وتنزلق، فلا تبدو مرتكزةً ولا ثابتة، بل خفيفةً تنقسم وتتطاير، لتعود فتتجمّع في أجسام وأشكال غريبة، تبدو وكأنها لشخص غيري. كالزئبق والنفناف، لا اتساق في أحداثها ولا منطق. متقطّعة، متضاربة، متنافرة، بعضها دبق، وبعضها الآخر متبخّر وسرابيّ. لإعادة ترتيبها، ينبغي إخراجها من ذاكرتي، والاحتكام إلى مراجع من خارجها، تجعلها تبدو وكأنها لم تحدث لي، وكأنها دارت على الورق فقط، كما يحصل مع كل الحروب التي علّمتنا إياها كتب التاريخ.
هل ذاك لأني لا أريد أن أذكر من حرب لبنان الأهلية كل ما له علاقة بالسياسة فيها؟ فتلك كالوحول، أو كالرمال المتحرّكة، ما إن أخوض فيها حتى أغرق، ولا أعود أدرك وجهتي أو مآلي. كل ما كنت أفكره، حينها، ما عدت أفكره اليوم، أو أني، بالأحرى، بتّ أفكره بطريقة مختلفة، وكل ما فكّره الآخرون، وما زالوا يفكرونه، بثبات من دون أن ينزاحوا عنه قيد أنملة، مجتزأ، وعفن، ومسبّب للغثيان، ومسموم.
أريد فقط أن أذكر ذاك الخوف الذي كان يتحرك في بطني، ويشدّ بي لأعود أدراجي، كلما خرجت لأمارس ما يشبه الحياة؛ الاختناق وإحساس الأسر ومذاق الخسارة تحت اللسان؛ المرات التي كدت أقتل فيها على حاجز، أو برصاصة قنّاص، أو بانفجار أخطأني ببضعة أمتار. أريد أن أذكر تلك السنوات العشر الضائعة التي ما زلتُ، إلى اليوم، أبحث عنها، ولا أعرف أين أجدها، أو كيف أملأ الفراغ، أو الثغرة الهائلة التي خلفتْها في عمري؛ سنوات الغربة القاسية، وتهمة أن تكون لبنانياً كلما أردت تجديد أوراق إقامتك؛ والذعر. الذعر في كل مرة تسمع عن انفجار، فتتعلق روحك بخط الهاتف، بانتظار أن يردوا عليك من الطرف الآخر، قائلين إن أحداً منهم لم يُصَب، وإلى الجحيم البقية، إلى الجحيم العالم كله، إلى الجحيم هذي الحياة.
أتفرّج، اليوم، على ما يجري في العالم من حولي، وأهزّ برأسي لأني أعرف، لأني خبرتُ وعاينتُ وجرّبتُ، ولست أدري إن كنت قد خرجت من المشهد المأسوي ذاك، أم ما زلت فيه. ثمة ما يبقيني على مسافة قريبة جداً مما جرى منذ أربعين عاماً. أربعون عاماً! أكاد لا أصدق كل هذه المسافة الزمنية. ومع ذلك، كل هذا القرب الذي ما زال يربطني إلى تلك الحرب، وكأنها حمولتي التي لا فكاك لي منها، ولن تفارقني ما حييت.
ندرك، نحن اللبنانيين الذين دفعنا أثماناً باهظة ولم نتّعظ، أن أمراء الحرب والطوائف أوقفوا الحرب بقرار إقليمي ودوليّ، أصدروا عفواً عاماً بحق أنفسهم، وجلسوا في السلطة التي لن يتخلّوا عنها في مدى منظور. جلسوا من دون أن يتلوا فعل الندامة، من دون يتغيّروا، وإن فعلوا، فبنسبة ضئيلةٍ، لا تضير استمرار حربٍ غير معلنة، ولا تعيق حتى إمكانية اشتعالها، حين يتوفر القرار والسلاح.
يوم 13 نيسان/إبريل 1975، كان يوم أحد. أذكر أنه كان عرس إحدى بنات العمومة، في كنيسة غدت خط تماسٍ، يقسم بين ما سُمّي بيروت الغربية والشرقية. حادثة البوسطة لم تكن بعيدة، وخيط الدم الذي بدأ نزفه الطويل من هناك، أتخيّله دائماً سائراً حتى المذبح، حيث وقفت العروس، مبللاً أطراف طرحتها الطويلة البيضاء. في ذاكرتي، كان ذاك كأنه آخر عرس أقيم في لبنان، قبل أن تعتم الدنيا، وتدخل البلاد في ليل طويل.
هذه الحرب التي عشتُ ثلثيها حاضرة، وثلثها الأخير غائبة، سمّمت ذاكرتي. أحداثها تتنقّل، وتتخالط وتنزلق، فلا تبدو مرتكزةً ولا ثابتة، بل خفيفةً تنقسم وتتطاير، لتعود فتتجمّع في أجسام وأشكال غريبة، تبدو وكأنها لشخص غيري. كالزئبق والنفناف، لا اتساق في أحداثها ولا منطق. متقطّعة، متضاربة، متنافرة، بعضها دبق، وبعضها الآخر متبخّر وسرابيّ. لإعادة ترتيبها، ينبغي إخراجها من ذاكرتي، والاحتكام إلى مراجع من خارجها، تجعلها تبدو وكأنها لم تحدث لي، وكأنها دارت على الورق فقط، كما يحصل مع كل الحروب التي علّمتنا إياها كتب التاريخ.
هل ذاك لأني لا أريد أن أذكر من حرب لبنان الأهلية كل ما له علاقة بالسياسة فيها؟ فتلك كالوحول، أو كالرمال المتحرّكة، ما إن أخوض فيها حتى أغرق، ولا أعود أدرك وجهتي أو مآلي. كل ما كنت أفكره، حينها، ما عدت أفكره اليوم، أو أني، بالأحرى، بتّ أفكره بطريقة مختلفة، وكل ما فكّره الآخرون، وما زالوا يفكرونه، بثبات من دون أن ينزاحوا عنه قيد أنملة، مجتزأ، وعفن، ومسبّب للغثيان، ومسموم.
أريد فقط أن أذكر ذاك الخوف الذي كان يتحرك في بطني، ويشدّ بي لأعود أدراجي، كلما خرجت لأمارس ما يشبه الحياة؛ الاختناق وإحساس الأسر ومذاق الخسارة تحت اللسان؛ المرات التي كدت أقتل فيها على حاجز، أو برصاصة قنّاص، أو بانفجار أخطأني ببضعة أمتار. أريد أن أذكر تلك السنوات العشر الضائعة التي ما زلتُ، إلى اليوم، أبحث عنها، ولا أعرف أين أجدها، أو كيف أملأ الفراغ، أو الثغرة الهائلة التي خلفتْها في عمري؛ سنوات الغربة القاسية، وتهمة أن تكون لبنانياً كلما أردت تجديد أوراق إقامتك؛ والذعر. الذعر في كل مرة تسمع عن انفجار، فتتعلق روحك بخط الهاتف، بانتظار أن يردوا عليك من الطرف الآخر، قائلين إن أحداً منهم لم يُصَب، وإلى الجحيم البقية، إلى الجحيم العالم كله، إلى الجحيم هذي الحياة.
أتفرّج، اليوم، على ما يجري في العالم من حولي، وأهزّ برأسي لأني أعرف، لأني خبرتُ وعاينتُ وجرّبتُ، ولست أدري إن كنت قد خرجت من المشهد المأسوي ذاك، أم ما زلت فيه. ثمة ما يبقيني على مسافة قريبة جداً مما جرى منذ أربعين عاماً. أربعون عاماً! أكاد لا أصدق كل هذه المسافة الزمنية. ومع ذلك، كل هذا القرب الذي ما زال يربطني إلى تلك الحرب، وكأنها حمولتي التي لا فكاك لي منها، ولن تفارقني ما حييت.