"أصوات عين توران" وتشريح آليات الاستبداد
على نحو تقريبي، كلّ شيء يقوم مقام شيء آخر هو رمز، بيد أنّ هذه العملية أو الطريقة لها طرق مختلفة ومتنوعة كثيرة في الأدب. وفي رواية "أسوار عين توران" للكاتبة السورية جنى فواز الحسن، تقوم عين توران مقام أيّة بلدة، أو مجتمع عاش تحت نظام استبدادي شمولي، سواء كان في وقتنا الراهن، أو في سورية، أو أيّ مكان في العالم، أو حتى في وقت سابق من التاريخ، بشكلٍ ما، وبمكانٍ ما.
"عين توران" مكان خيالي يتجسّد ببلدة صغيرة منعزلة عن العالم الخارجي بقرار السلطات فيها. كلّ شيء له نظامه الموّحد، جدول طعام أيام الأسبوع، العادات والتقاليد، الزواج من خارج البلدة هو خطيئة لا تقبل السماح، الجهل هو القيمة الممدوحة في البلدة على عكس المعرفة المنبوذة من السكان، لكي يُتوارث الجهل عبر الأجيال لا بدّ على جميع الذكور عندما يبلغون الثامنة عشرة والإناث اللاتي بلغن السادسة عشرة تناول الحبة السحرية.
تتشابه رحلة هيثم مع رحلة البطل التي شرح وكتب عنها الناقد الأميركي، جوزيف كامبل، في عدّة كتب أبرزها "البطل بألف وجه". يلخص لنا كامبل رحلة البطل على أنّها تمر بثلاثة مراحل، وهي المغادرة، البدء، العودة، وتتخلّلها عدّة مراحل فرعية، مثل النداء الداخلي للمغادرة والتمرّد، رفض النداء، طرق التجارب، الواجب والخلاص والعودة، وهي سمات متشابه في الحكايات الشعبية والقصص الدينية والروحية والأساطير.
توّظف الكاتبة مراحل هذه الرحلة بشكل دقيق وبسرد سريع من خلال شخصية هيثم، والذي يتمرّد على سلطة ضيعته، ويقرّر أن يرفض تناول الحبّة السحرية، ويسعى للمغادرة إلى المدينة المجاورة ويصبو نحو الحداثة. وبعد معرفته بأنّ الحبّة السحرية مجرّد وهم، يقرّر أن يغيّر خياره بأن يبقى ويسمع نداء الواجب ويقرّر الخوض فيه وإنقاذ أهالي البلدة من الاستبداد. لكنه يصطدم بالواقع وكيفية تنفيذ خطته، فيقرّر بنفسه أنّ غايته النبيلة تبرّر وسائله اللاأخلاقية، وبعد عدّة تجارب وتحالفات يعقدها في تحقيق هدفه، يكتشف سذاجته ليجد نفسه منزوع القرار، وكأنّ مصيره وقدره أصبح أقوى من إرادته، وهكذا رويداً رويداً، يتجه ليصبحَ صورة طبق الأصل عن عمه الآغا والطبيب.
تقوم "عين توران" في الرواية، مقام أيّة بلدة، أو مجتمع عاش تحت نظام استبدادي شمولي، سواء كان في وقتنا الراهن، أو في سورية، أو أيّ مكان في العالم
تمثل الكاتبة السلطة في كلّ من شخصية الآغا والطبيب النفسي، الآغا العضلات والقوة الضاربة، بينما تحمل رمزية شخصية الطبيب سمات الديكتاتوريين وآباء الشعوب الدجالين والعارفين المدّعين لمصلحة تلك الشعوب الذين ينظرون إلى البشر على أنّهم جهلة وقطيع، ومن السهولة اقتيادهم طالما بقي هو الوحيد الذي يستطيع أن يبيعهم الوهم، والمتمثّل في الحبّة السحرية في الرواية.
تظهر في الرواية شخصية لبنى التي تأتي إلى البلدة بعد تعرّضها للاغتصاب من قبل الآغا، ولكي تتحاشى الفضيحة تقبل بالحل الذي يحكيه الطبيب وتحاول أن تحوّل مأساتها إلى حكمة وهدوء لكي تعيش بعيدة عن مشاكل البلدة، ولكن تجد نفسها في مواجهة لا مهرب منها مع الآغا، لتنتهي المواجهة بانتقام لبنى من الآغا، وتمثل بذلك شخصية النساء الضحايا اللاتي يعشن تحت وطأة سلطة الأنظمة الذكورية ومعايير المجتمع المتخلفة، مثل العار والشرف والعيب..
تجد الكاتبة في النوع الرمزي وسيلة للتعبير عن المشاكل والصراعات الحالية وتطرح الكاتبة من خلال شخصياتها أسئلة حاضرة بشدّة في وقتنا الراهن مثل أسئلة الانتماء والتمرّد والثورة والهوية، وذلك على لسان وحوارات هيثم مع الطبيب والآغا.
تطرح الكاتبة من خلال شخصياتها أسئلة حاضرة بشدّة في وقتنا الراهن مثل أسئلة الانتماء و التمرد والثورة والهوية
تزيح الكاتبة الغطاء عن فكرة الأسوار، ومن خلال شخصيات الحكاية تُرينا أنّ الأسوار ليست بالضرورة أن تكون مادية أو فيزيائية حتى لو رغب البعض بها، الأسوار هي بيننا نحن البشر وبين أنفسنا، ففي دواخلنا نعلي تلك الأسوار، أحياناً بوعي وأحياناً بدون وعي.
والجدير بالذكر أنّ "أسوار عين توران" هي الرواية الثالثة للكاتبة، وقد صدرت حديثاً عن منشورات ضفاف، بعد روايتيها اللتين بلغتا القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية "أنا، هي والأخريات" (2012) و"طابق 99" (2014).