رجل الأسطح أم كشّاش الحمام؟
يقول الناقد الأميركي ديفيد لودج في كتابه "الفن الروائي" إن إزالة الألُفة عن المواضيع المُنمطة والمعتادة، هي واحدة من أهم خصوصيات السرد الروائي، وهذا ما يقوم به الكاتب السوري فراس المعصراني في روايته الأولى الصادرة تحت عنوان "الممر اللامألوف، الذي يُخفيه رجل الأسطح".
تُزيل الرواية الأُلفة وترفع غطاء التنميط الاجتماعي والتعوّد على الأحكام الاجتماعية المسبقة عن مهنة مربّي الحَمام، والتي تُعرف في سورية بعدّة تسميات، منها الحميماتي، كشاش حَمام، رجل الحَمام، رجل الأسطح.
تكشُف الرواية جماليات حرفة الحميماتي، وذلك من خلال التركيز على التفاصيل الدقيقة، وتقدّم دراسة أنثروبولوجية نفسية عن حياة وهواية مربّي الحَمام وعوالمه، بالإضافة إلى عمل الكاتب على صعيد المصطلحات والمفردات اللغوية الخاصة بتربية الحَمام.
نبيه بدران رجل في الثلاثينات من العمر، متزوّج، ليس لديه أطفال، ويعمل في مهن غير مستقرة ويعيش في مدينة حمص. يجد في تربية الحَمام متنفسه الوحيد وشغفه الذي يسرقه من ضغوط الحياة اليومية، والتي سبقت حدوث الكارثة في المدينة.
تنقسم الرواية إلى قسمين، الأول تسير الرواية فيه بشكل انسيابي إلى لحظة اللامألوف أو الغرائبي في الحكاية.
يقترح الناقد البنيوي الفرنسي البلغاري الأصل، تسيفيان تودوروف، تقسيم القصص ذات المواضيع الخارقة للطبيعة إلى ثلاث فئات: المذهل حيث لا يمكن تفسير الظاهرة الخارقة للطبيعة تفسيراً عقلانياً، والثانية هي اللامألوف حيث يمكن تفسير الظاهرة، والغريب أو الغرائبي حيث ترد القصة دون حسم بين تفسير طبيعي وآخر خارق للطبيعة.
تكشُف الرواية جماليات حرفة الحميماتي، وذلك من خلال التركيز على التفاصيل الدقيقة، وتقدّم دراسة أنثروبولوجية نفسية عن حياة وهواية مربّي الحَمام وعوالمه
يعثر نبيه على ممرّ سري في أسطوحه الذي يربّي فيه الحَمام، بما يذكرنا بالباب السري في حكاية "أليس في بلاد العجائب" للكاتب لويس كارول، أو بالغرفة الكونية في رواية "رقص رقص رقص" لهاروكي موراكامي. في روايته، يستطيع نبيه أن يصل إلى عالم مختلف، يشبه جداً عالمه في مدينة حمص، كما لو أننا في محاكاة لهذا العالم، لكن المميّز فيه هو قدرة نبيه على التكلّم مع الحمام، وقلة البشر المختارين لدخوله.
يحفل الأدب العربي والعالمي بروايات وقصص تلعب فيها الحيوانات أدواراً وتحمل رموزاً ودلالات محدّدة، مثل حكايات "ألف ليلة وليلة" و"حكايات كليلة ودمنة" في التراث الأدبي العربي. أمّا في الأدب العالمي، فنجد عدّة أمثلة مثل القط الذي يتحدث مع شخصيات رواية "كافكا على الشاطئ" لهاروكي موراكامي، والقط بيغموت مساعد الشيطان في رواية "المعلم ومارغريتا" للروائي الروسي ميخائيل بولغاكوف، وتختلف توظيفات الحيوانات في الرواية، حيث توّظف رواية "الممر اللامألوف" الحَمام ليحمل دلالات رمزية تنكشف عن طريق المحاورات والنقاشات التي تدور بين نبيه وبين الحَمامة فيديا، والتي ترمز للحكمة.
في القسم الثاني للرواية، نعود إلى مدينة حمص وبداية مرحلة جديدة في المدينة، سوداوية وعنيفة تتجلّى بحظر تجوال يفرضه العسكر والأمن المتشحان باللون الكاكي، بعد أن تغيّر كلّ شيء في المدينة، سكانها وطرقها وحجارتها، ولم يسلم من هذا التغيّر حتى الطيور والشجر، محوّلاً المدينة إلى مدينة أشباح، تكاد تختفي فيها كلّ مظاهر الحياة.
يخرق نبيه الحظر محاولاً إنقاذ طيوره، وبعد إدراكه لحجم الخطر في المدينة يسعى لإنقاذ زوجته وأصدقائه عبر أخذهم إلى الممر السري قبل أن تنكشف خطته من قبل الضابط سامح الذي يحاول أن يمنعه، ويحاول كشف سره وعالمه الموازي.
يدخلنا الروائي معه في جنون الأحداث التي تفرض على شخصيات الرواية أدواراً مصيرية كثيرة لا مفر منها، لتصل في النهاية إلى تجلّي أو قمة لعبة تبادل الأدوار، حيث يرفض نبيه أن يلعب دور الضحية ويقرّر أن يتمرّد لعل في تمرده يكمن الخلاص.
يكتب الروائي كلّ هذه الأحداث مستخدماً لغة متينة ومباشرة ومختصرة، لا يوجد فيها ما لا يلزم الرواية ويخدمها، علماً أنّها العمل الأول للكاتب فراس المعصراني، وصدرت عن دار ممدوح عدوان عام 2023، ووصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب.