أمي.. كل الحنان

25 ديسمبر 2016
+ الخط -


في أحد مستشفيات مدينة المنيا جنوب صعيد مصر، جلست بجوارها على طرف السرير الذي كانت تنام عليه حيث كانت مريضة.

لست أحكي لها حواديت وقصصاً كما كانت تقص عليّ وأنا طفل قبل النوم، أحكي لها عن أحفادها الذين يشبهونها، أذكرها بحكاية الذئب الذي هجم على قطعان الغنم الذي كنت أرعاه وأنا طفل لم يتجاوز السادسة من عمره، وكيف أن الذئب خطف مني شاة وفي ثوان معدودة حملها على ظهره وفرّ هارباً
.


أذكرها بتعنيف والدي، رحمه الله، لي، وكيف أنه استشاط غضباً لأنني ساعتها لم أكن على قدر المسؤولية، ولم أواجه الذئب وأطارده قبل أن يسرق مني أحد قطعان الغنم، وكيف قمت وقتها بتهدئة روعي ومخاوفي من الذئب الغادر، ومن أبي الغاضب مني، لأنني لم أتعامل مع الذئب كالرجال الكبار.


أحكي لها عن الوصايا التي كانت تقدمها لأبي عندما أذهب معه إلى الحقل في منتصف الليل لنروي الأرض، حيث كان منسوب المياه مرتفعاً في ذلك الوقت، وكيف كانت تحذرني من الاقتراب من الترعة والثعالب والذئاب، والتي كانت تملأ الحقول والزراعات من حولنا.


أسرد لها خوفها الشديد علي من هواية تسلق الأشجار العالية، وكيف كنت أذاكر دروسي على أحد الأفرع العالية بعد أن التحقت بالمدرسة الابتدائية، أذكرها بواقعة تسلقي شجرة الجميز الضخمة الواقعة على حافة الترعة، وكيف انهارت الشجرة وأنا أتسلق أحد فروعها، وقصة سقوطي من أعلى الشجرة إلى قاع الترعة، وكيف غطت الشجرة مجرى الترعة بالكامل وأنا تحتها، وكيف أنني سبحت في عمق المياه ومن تحت أفرع الشجرة لأخرج من الطرف الآخر، وكيف أن قلبها كاد أن يقف من الخوف وأنا أسرد لها هذه الحكاية.


كنت أبتسم لها وأطير كما الأطفال كلما حاولت أن أنعش لها ذاكرتها بقصة قديمة، خاصة تلك المتعلقة بطفولتي الشقية.

فاكرة يا أمي؟

هكذا كنت أسألها من حين لآخر.

وقبل أن أسمع صوتها يرد علي أنتقل إلى حكاية أخرى والبسمة تملأ وجهي، فاكرة عندما كنت صياد سمك شاطراً وأنا طفل، فاكرة عندما تسلقت جذع النخلة لأقطف البلح الأصفر الرطب، وعندما وصلت لأعلاها تجمدت أعصابي، حيث وجدت ثعباناً يحتل قلب النخلة وكيف أن أخي الأكبر، رحمه الله، تسلق النخلة بسرعة ليحملني على كتفه وينقذني من هذا الموقف.


ومن حكاية لأخرى أنتقل بين قصص الطفولة التي لا تنتهي، إلى أن جاء صوت من خلفي يقول لي: هل تتحدث مع ميتة؟


لم أستوعب الكلمة في اللحظة الأولى، ربما أحاول إيهام نفسي بأنني لم أسمعها أصلاً، أحاول أن أكذب نفسي، ربما صوت شيطاني هو من قال لي ذلك، لم ألتفت للصوت ظناً مني أنه هاجس، وواصلت سرد حكاياتي لأمي النائمة أمامي على سرير ومغطاة بغطاء أبيض.

فاكرة ....

ويبدو أن أخي صاحب الصوت أراد أن يصدمني حتى أفيق وأصدق ما جرى أمام عيني، فقال لي بصوت عالٍ: أمك ماتت، خلاص ماتت، أصبحت لا تسمع الحواديت التي تقصها عليها.

لم أعلق، لم أتكلم كلمة واحدة، كل ما فعلته هو أنني صرخت من أعماقي وألقيت بكل جسدي على هذا الملاك النائم أمامي، حضنتها بكل ما أوتيت من قوة، غير مصدق أن أمي ماتت، ألقيت بنفسي في حضنها كالطفل الصغير، تعلقت بها بشدة ربما لأقول لها: لا تتركيني وحدي، أحتاجك في هذه الأيام بالذات، بل أحتاجك لأن تكوني بجواري طول العمر، فلم أتخيل يوماً أن أعيش من دون أمي.

ساعتها بكيت بحرقة، وذرفت الدموع من عيني كالأنهار التي لا يتوقف سيرها، بكيت ما لم أبكه طوال حياتي.

لم يستطع شقيقاي اللذان كانا يقفان بجواري أن ينزعاني من حضن أمي أو يبعداني عنها ولو عدة سنتميترات، ازداد تعلقي بها ومعها زاد بكائي ونحيبي.

من مدينة المنيا إلى قريتي الصغيرة الواقعة على الأطراف الجنوبية من المحافظة وعلى حدود محافظة أسيوط، سارت السيارات التي تقلنا وفي وسطها السيارة التي كانت تحمل نعش أمي، سارت بسرعة، لم أشعر بأي شيء من حولي، لأن عينيّ كانتا تفيضان بالدموع، لم أشعر بالمسافة التي قطعتها السيارات التي كانت تقلنا، كنت أتمنى أن تتوقف عجلة السيارات عن قطع المسافات فتتوقف معها حركة الزمن.

وصلنا القرية بعد نحو الساعة من تحركنا، صفوف من الرجال في انتظارنا، ساعتها لم أرَ شيئاً أمامي، ولم أشعر بأي أحد، كل الذي كنت أراه هو ذلك البيت الذي جمعني وإخوتي الستة وسط أب فلاح بسيط، مات في سن مبكرة، وأم حنونة، وجدة لم تغب عن ذاكرتي يوماً، إذ كانت تجمع بين متناقضين، الحنان والطيبة، وقوة الشخصية، ربما تأثراً بأبيها الذي كان يعمل جزاراً.

دخل النعش الغرفة التي عشت فيها ما يقرب من 20 عاماً، طلبت من الجميع أن يخرجوا منها، لم تستطع قدماي أن تحملاني مرة ثانية، انهارت ومعها انهارت كل قواي، مرة أخرى نزلت على ركبتي، أحضن أمي المبتسمة حتى في فراش الموت، لا أريد أن أتركها تذهب لوحدها إلى العالم الآخر.. لا أريد أن تتركني هنا وحدي.

مرة أخرى يأتي أشقائي يحاولون نزعي نزعاً من أحضان أمي، أخيراً نجحا بعد عناء.


في هذه الغرفة التي قضيت فيها أجمل سنوات عمري، تذكرت كيف كانت تسهر أمي بجانبي وأنا أذاكر لساعات طويلة، كيف كانت تشجعني على الدراسة رغم أنها كانت أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة وكنت أنا الابن الوحيد في العائلة الذي يلتحق بالمدرسة.

أنظر في هذا الركن من البيت فأتذكر كيف كانت تشجعني على النجاح والتفوق، كيف كانت تودعني بدعواتها على عتبة البيت وأنا خارج نحو المدرسة.

النعش يتحرك من غرفتي نحو باب منزلنا، وأنا خارج من الغرفة أنظر يميناً لأجد سلالم منزلنا الدافئ، على هذه السلالم كانت لي حكايات وقصص، حيث تم رسم مستقبلي عليه.

في يوم ما وعقب ظهور نتيجة الثانوية العامة، دخلت المنزل لأبحث عن أمي، كانت في الطابق الأعلى، صرخت بأعلى صوتي: أمي أنا نجحت بمجموع عالٍ، طلعت الثالث على المدرسة الثانوية.. سمعت صوتي، هبطت بسرعة من أعلى، ساعدتها في ذلك فرحتها وجسدها النحيف، في وسط السلالم التقينا، نجحت الحمد لله، هكذا قلت لها وأنا ألهث من الفرحة والبحث عنها، وقبل أن أنطق بكلمة علا صوتها بزغرودة طويلة رنّت في كل ركن من جنبات بيتنا الدافئ.

تحركنا سريعاً نحو المدافن حيث تقع في الجانب الآخر من قريتنا، كانت الجنازة تسير بسرعة، كنا نلهث للحاق بأمي، غير مصدق أني لن أراها بعد اليوم، ربما جسدها النحيف هو من ساعدها في ذلك، لا هو عملها الصالح وكرمها وعطفها على المساكين والفقراء.

الآن استريحي يا أمي، فالعالم بات أكثر ظلمة، أشد قسوة، أقل عدلاً ورحمة من دونك.

رحمك الله يا أمي... لقد كنت نبعاً للحنان.​

 

 

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".