أهمية العقل الاستراتيجي بالنسبة للدولة
أهم ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات هو العقل ولذلك أهتم الفلاسفة بتفسير طبيعة تكوين العقل بدءا من أفلاطون الذي اعتبر أن العقل هو المحرك الرئيسي للإنسان وجوهره لإخضاع الطبيعة لصالحه، لذلك أعطى أفلاطون للعقل أهمية كبيرة، ثم استولت فلسفته على أبحاث وكتابات فلاسفة آخرين في القرون الوسطى وكان لها الأثر الأكبر في النهضة. ثم أعطى رينيه ديكارت بفلسفته العقلانية أهمية قصوى للعقل وهو الذي يقول: "عليك أن تقرأ الماضي قراءة جيدة ومن ثم أن تحكم عقلك في اختيار طريقك لأنه أساس المعرفة".
حياة الإنسان والأمم مليئة بالفجوات التي تنتظر أن تملأ، والتفكير وإعمال العقل هو الطريق إلى ذلك، ولأن التفكير وإعمال العقل ليس بالأمر السهل فهو بحاجة إلى مفكرين واستراتيجيين يقومون بهذه المهمة.
والتفكير بطريقة مختلفة يحتاج إلى إزالة الغشاء أمام عدسات عيوننا والآراء المسموعة من آذاننا فإذا رأينا الأشياء بشكل مختلف فمن المستحيل تقريبًا فعل الأشياء بالطريقة نفسها. وبذلك يحتاج المفكرون وقادة المستقبل إلى امتلاك قدرات خاصة، وحكمة وعيون جديدة تنظر إلى الأشياء بطرق مختلفة حتى.
العقل الاستراتيجي يعمل بشكل مختلف كونه قادرا على اكتشاف الأفكار الجديدة وفرص تغيير اللعبة والاستيلاء عليها واتخاذ القرارات المترتبة على الغايات والاستراتيجيات والتكتيكات.
أصعب ما نواجهه في هذه المرحلة من عمر الأمة أننا نتحسس الخطى بشكل عشوائي دون وعي استراتيجي هدفه الأساسي هو الرفعة الدائمة للأمة
وتساعد هذه العقول في تشكيل الميزة التنافسية للشركات أو الكيانات فمن خلالها يمكنها معالجة المعلومات الهامة والتعلم بصورة أفضل، كما يمكنها من دراسة الماضي والحاضر ليس فقط بل توقع المستقبل. ففي التفكير الاستراتيجي لا تختلف مصادر البيانات فقط ولكن تحليل البيانات أيضاً مختلف إذاً التفكير الاستراتيجي مبدع وحاسم في إنجاز الأعمال.
عندما تفقد الدولة أو أي مشروع سياسي تغييري العقول الاستراتيجية فإنها تضل وتتوه سفينتها بل وتتخبط في بحر السياسة في الاقتصاد في الثقافة وفي الاجتماع، بل يغرق المجتمع بأكمله في دوامة عشوائية نتيجة تخبط قادة الدول أو القادة السياسيين، ولذلك يمكننا أن نقول من يمتلك عقولا استراتيجية يصبح قادرا على حماية مشروعه من الانجراف، ويكون بالضرورة قادراً على استشراف الأزمات وإدارتها، ومواجهة مصدرها، والتحكم في أطرافها الفاعلة.
إذا أردنا أن ندمر دولة أو مشروعا تغييريا فأولى الخطوات التي نبدأ بها هي تدمير العقول الاستراتيجية بداخلها لأنها هي التي تدفع الكيان أو الدولة نحو النهوض، وذلك من خلال حشد وتنسيق وإنتاج المعرفة وعمل دراسات حقيقية للبيئة الداخلية والخارجية وتحليل للبيئة الجيوستراتيجية وتوقع المستقبل واستشراف الفرص وكيفية توظيفها التوظيف الصحيح لخدمة الدولة أو مشروع التغيير. غياب مؤسسة العقل الاستراتيجي داخل الدولة أو الكيان يعني السير في الظلام دون نور كاشف وعدم الاستفادة من الخبرات المعرفية وتوجيهها لصالح الغايات الكبرى التي يراد تحقيقها، وأيضا عدم القدرة على قراءة واستغلال مصادر القوة كعنصر أساسي لمواجهة ضعف الخصوم أو التهديدات التي تواجهه.
أصعب ما نواجهه في هذه المرحلة من عمر الأمة أننا نتحسس الخطى بشكل عشوائي دون وعي استراتيجي هدفه الأساسي هو الرفعة الدائمة للأمة، بل أصبحنا نتلاطم في أمواج البحر العاتي مما جعل الرؤية عندنا مشوشة، وأصبحنا نفتقد إلى عقول استراتيجية تتخذ من العلم سلاحاً ومن التفكير وسيلة، بل أصبحنا ردود فعل تجاه أفعال الخصوم وغرقنا في التفاصيل الصغيرة ونسينا التوجه الرئيسي الذي نرجوه، حتى أصبحت الوسائل والتكتيكات غايات وأصبحت الخطط في حد ذاتها هي الهدف الذي نرجوه فبعدت عن الهدف المراد تحقيقه، بل وأصبحت قراءة الواقع من مخيلات عقولنا دونما قراءة علمية حقيقية فاختلطت المعلومات بالتحليلات بالتفسيرات، وعدم محاولة الأمة أو الدولة أو الكيان امتلاك هذه العقول المتسلحة بالعلم والتي بنيت البناء الصحيح كباحثين استراتيجيين لن تقوم للامة أو الدولة أو الكيان قائمة لأنها ستتخبط في بحر مليء بالمتشابهات والمتشابكات والمتداخلات التي لن يفكها إلا عقل واعٍ مدرك لمهمته مدرب على أدائها متفرغ لها عنده وعي بكل مدركات الأمور فيحول الطالح من الأمور إلى صالح ويحول المخاطر والتهديدات إلى فرص.