إعادة التدوير ما بين الاقتصادي والشهرة
تُعتبر عمليّة إعادة التدوير خاصّة للملابس إجراءً داعمًا للبيئة النظيفة ويهدف إلى الحفاظ على موارد الأرض والتقليل قدر الإمكان من هدرها، بفضل توجّهات جمعيّات الخضر والبيئة وضغطها، تحوّلت إعادة التدوير إلى ثقافة مدنيّة تنويريّة تواجه فرط الاستهلاك المَرَضيّ والفاحش، كما تحوّلت إلى وارد اقتصاديّ واسع ومهمّ للناس الفقيرة أو المفقرة بسبب حرمانها القصديّ والمتوحّش من حقّها في الوصول إلى الموارد التي تحتاج إليها.
كما تقول الحكاية إنّ أوّل علامات الثورة على البروتوكولات الملكيّة الصارمة قامت بها الأميرة ديانا عندما أعادت تدوير أحد فساتينها بقصّ جزء من طوله وبإلغاء الأكمام الطويلة بصورة نهائيّة. هنا تكمن الثورة بقصّ الأكمام وقصّ قطعة من الفستان مع أنّه كان ممكنًا شراء فستان جديد قصير وبلا أكمام، اكتسبت عمليّة إعادة التدوير هنا فعلًا ثوريًّا عبر التصرّف الجريء حيال شيء موجود وثابت وقبوله راسخًا لدرجة القداسة.
تتناقل الأخبار خاصّة عبر القنوات الإعلاميّة والفنّيّة صورًا لفنّانات أعدنَ تدوير بعض من ملابسهنّ أو من ملابس والداتهنّ، خاصّة إذا كانت الوالدات فنّانات أو مشهورات أيضًا وكأنّه خبر عظيم، أو كأنّه دلالة على تواضع تلك الفنّانة وبساطتها، لدرجة أنّ إحداهنّ قد أسمت فستان والدتها الذي أعادت ارتداءه بعمليّة تدوير بسيطة بـ (القطعة الخالدة). لكنّه في الحقيقة عمل يهدف إلى التفاخر، إلى الثناء، هنا بهتت روح الثورة المتضمّنة في أوّل إعادة تدوير ملكيّ، ضاعت الثورة وجذريّة الفعل المتمرّد في زحمة الإعلانات والأضواء وفي زحمة اللهاث وراء الإبهار والإعجابات، تهافت الفعل الثوريّ والتقطته الفنّانات تقليدًا مقلّدًا ومستحدثًا بحثًا عن الأضواء والتريند.
على المقلب الآخر وبعيدًا عن الأضواء والإعلانات ومشاعر الزهو والفخر وأسماء العلامات التجاريّة الثمينة والمشهورة وأسعارها، يغلب الإبداع على عمليّات إعادة التدوير الشعبيّة أو تلك التي صنعها أشخاص هم إمّا بأمسّ الحاجة إلى قطع ومنتجات محدثة ومعاد تدويرها تناسب وتلبّي احتياجاتهم ومقاساتهم، وإمّا سعيًا وتوجّهًا لتعميم قيم حماية الكوكب ومسؤوليّة الجميع عن حماية موارده وعدم هدرها، تتحوّل إعادة التدوير هنا إلى فعاليّة اقتصاديّة وإنسانيّة وقيميّة.
بعيدًا عن الأضواء والإعلانات ومشاعر الزهو والفخر وأسماء العلامات التجاريّة الثمينة والمشهورة وأسعارها، يغلب الإبداع على عمليّات إعادة التدوير الشعبيّة
تجمع ديمة أقلام التلوين من البيوت التي تعرفها، تلمّها من على أبواب المدارس أحيانًا، تمسحها بعناية، تجمعها في مجموعات مؤلّفة من ستّة أو اثني عشر لونًا وتوزّعها للمحتاجين في علب كرتونيّة معاد تدويرها أيضًا، تمنح ديمة الأطفال مدًى سخيًّا ومفرحًا من الألوان، ترفق علبة الألوان غالبًا بدفتر رسم لهواة الرسم، وبأوراق بيضاء من جهة واحدة لأطفال يرغبون في التلوين أو أنّه من الضروريّ أن يمضوا أوقاتهم في نشاطات فنّيّة وعقليّة باعتبارها دعمًا نفسيًّا أو صحّيًّا أو تربويًّا، تقول ديمة: إنّها تتعمّد منح الأوراق المشغولة بالكتابة على أحد وجهيها لتوصل رسالة إلى الأطفال وإلى ذويهم بأنّ اللون يأخذ مساحته على أيّ ورقة مهما كانت.
يبدو الفرق واضحًا ونوعيًّا وليس كمّيًّا فقط ما بين الوجه الاقتصاديّ المسؤول لعمليّات إعادة التدوير وما بين الضجّة الإعلاميّة والأخبار التي تسعى للحصول على سبق صحافيّ أو انتشار إعلانيّ ينشد الشهرة، والفروق هنا وإن اكتست طابعًا حدّيًّا لكنّها مؤشّر هامّ على أنّ إعادة التدوير هي عمليّة مطلوبة والفارق في توجّهاتها وربّما في أصحابها الساعين إليها.
الفروق الشاسعة ما بين عمليّتي إعادة التدوير هنا مرتبطة بهويّة مؤسّسة على قضيّة إنسانيّة ومعرفيّة تنشد الديمومة وتلج المستقبل بخطًى واثقة وقيم تؤسّس لمساواة أو لتكافؤ فرص وربّما لعالم أكثر عدلًا، وبين هويّة مؤسّسة على التلاعب بآراء البشر وردات أفعالهم المباشرة التي تتحوّل إلى مجرّد أرقام في إحصاءات الشهرة ودرجة تفوّق بعض المؤسّسات الإعلاميّة والإعلانيّة، عبر تعظيم سلوك شخص مشهور همّه الأوّل المزيد من التداول والأضواء.
إنّه فرق شاسع! فرق هويّاتيّ وقيميّ، وتبقى عمليّات إعادة التدوير بوصلة من أجل البقاء.