الإنسان.. في مواجهة هشاشته
عبد الحق مفيد
في مواجهة هشاشتهم الوجودية، يسعى البشر إلى امتلاك أو تملّك كل شيء حولهم، إلى درجة أنّ التاريخ يقول لنا إنّه في مرحلة سابقة، تملّك البشر بشراً آخرين مثلهم، يتعلق الأمر بزمن العبودية والرق. وما زالت هذه الممارسة مستمرة بشكل أو بآخر، وبشكل غير قانوني.
يدرك الإنسان بوعيه أنه ورغم قدرته على امتلاك كلّ شيء فإنه قاصر عن امتلاك ذاته، التي يعرف أنها آيلة للفناء، آجلاً أم عاجلاً. فهو وإن لم يدرك موته كتجربة ذاتية، فإنه يعرفها كتجربة موضوعية من خلال موت الآخرين حوله. وهذا القلق والخوف المزمنان من فقدان أغلى ما نملك، وهو ذواتنا، يتم التعويض عنه أو عليه بتملّك أو امتلاك ما يحيط بنا، وأحياناً بجشع كبير.
وسنعطي مثالاً على ذلك؛ باستطاعة أيّ أحد أن يمتلك أحجاراً، فهي مطروحة في الخلاء أو فوق الأرض، ولن يتباهى أحد بامتلاكه لحجر، ولن يضعه أحد فوق رأسه أو في عنقه أو في متحفه، لكن الأمر مختلف حينما يتعلق الأمر بأحجار كريمة. لنعكس الأمر الآن، ونفترض أنّ الأحجار الكريمة هي الموجودة في الطبيعة، في حين أنّ العادية هي النادرة، حينئذ سيكون تاج الملوك مرصعاً بالأحجار العادية.
مأساة الإنسان مركبة، وتاريخها ممتد على امتداد تاريخه بوعيه بوجوده أو بصيغة أدق، وعيه بموته وزواله. لكن وهو في طريقه إلى هذا الزوال والفناء النهائي، يعيش ميتات صغرى تتجلّى أساساً في موت لذاته (من اللذة) التي يسعى بكلّ طاقته للحصول عليها. فهو لا يفهم كيف أنه يكابد للحصول عليه، ولا تكون في آخر المطاف في مستوى ما تصوّر، ولا تكون بحجم انتظاراته ولا تمنحه السعادة والهناء المنتظر، ليخلص إلى الجملة التي تردّدت داخل كلّ واحد فينا، وعبّر عنها الشاعر السوري الراحل نزار قباني بقوله "وستعرف بعد رحيل العمر أنك كنت تطارد خيط دخان".
تبدأ مأساتنا بتبدّد لذّة ما نملك بمجرّد الحصول عليه، سواء كان أكلاً أو شرباً أو سلطة أو نشوة جسدية أو رصيداً مادياً كيفما كان. الذين يفهمون ما يحدث يكتفون بما يحقّق توازنهم، لكن من يستعصي عليهم فهم الأمر، وهم الغالبية، يستمرون في مراكمة ما يحتاجونه، وما لا يحتاجونه، وقد لا يستعملونه أبداً، فقدرة الإنسان وجسده على احتواء اللذة والترف محدودة جداً. سنعطي مثالاً على ذلك أيضاً، لنفرض أنّ شخصاً يملك سرباً من الطائرات وأسطولاً من اليخوت وسلسلة من القصور على امتداد الأرض، فهل سيسمح له جسده وزمنه بالاستمتاع بكلّ ذلك؟ الجواب هو لا.
بدل السعي إلى الامتلاك الذي قد يسبّب الشقاء، فلنجرب التخلّص من الأشياء
هكذا نجد أنّ مجموعة من العقائد والديانات اقترحت عكس أو معاكسة الطريق، فبدل السعي إلى الامتلاك الذي يسبّب افتراضاً الشقاء، فلنجرب التخلص من الأشياء. هكذا تقترح البوذية التخلّص من الملذات الحسية والمادية والاكتفاء بما يبقي الإنسان على قيد الحياة، واليهودية تقترح شظف العيش والاتشاح بالسواد، والمسيحية التخلّي نهائياً عن شهوة الجسد بالنسبة لرجال الدين من أجل سمو الروح، والإسلام يقترح غضّ البصر والعفة والصيام والزهد وغير ذلك.
لكن يبقى السؤال: هل استطاعت هذه المعتقدات أن تخلّص البشر من شقائهم المزمن؟
سيجيب كلّ مؤمن بمعتقده أنّ ما يؤمن به هو ما يمنحه الخلاص، لكن ألا يجدر بنا وضع فكرة الخلاص هذه، والتي تشترك فيها مجمل العقائد والديانات، سواء كانت سماوية أو غير ذلك، موضع سؤال؟ الخلاص مم؟ هل يتعلق الأمر بالخلاص من الفناء والموت وعبثية الوجود والعدم؟ أم بالخلاص من الخطيئة الأولى؟ أكل التفاحة واكتشاف العورة، والتي ليست شيئاً آخر غير ذواتنا؟ هل نسعى لنكون ذواتاً خالدة، وإلى الأبد؟ ثمّ هل تكفي فكرة إيماننا بوجودنا "خالدين فيها أبداً"؛ الجنة والنار (حسب الجزاء والعقاب)، في التخلّص من فكرة فنائنا والتصالح مع وجودنا كذوات بشرية فانية والعيش بسلام فوق هذه الأرض؟