لا مطر في السماء
عبد الحق مفيد
اقتربنا من نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، ولم تسقط قطرة واحدة من المطر بعد من السماء كي تعانق يتم التراب. وجه السماء شاحب، ووجه الأرض أكثر شحوباً، ووجوه الناس مرايا. الكلّ متوّجس، حتى الأشجار لم تغيّر أوراقها مخافةَ أن تبقى عارية طيلة السنة، وكأنّ لسان حالها يقول "ابحثوا عن معالم فصل الخريف في مكان آخر".
في حديث جانبي مع بقال الحي الذي أقطن فيه، وكنت أشتكي له استمرار موجة الحر وانحباس المطر. قال الزبون المجاور لي، وهو يعقّب على كلامي "على الأقل أنتم هنا في المدينة لديكم الماء في بيوتكم. نحن هناك (وأشار بيده بعيدا، يقصد في البادية) لا ماء ولا كلأ. لطفك اللهم".
قال الجنرال الفرنسي الذي حكم المغرب في فترة الاستعمار، لوبير ليوطي: "إذا أردت أن تحكم المغرب على السماء أن تمطر". كان يقصد أنه في الفترات التي ينحبس فيها المطر في المغرب، تعمّ الفوضى والخراب وحتى الأوبئة. تاريخ سياسة المغرب هو تاريخ سياسة المطر والجفاف المتعاقبين.
الجفاف لم يضرب المغرب فقط، بل بلدانا كثيرة أيضا، حيث جفت الأنهار الكبيرة وسكت هدير محركات المراكب الكبيرة في الأنهار. نهر أم الربيع، لدينا، ما زال يقاوم مثل أم ترضع صغيرها رغم تعبها ومرضها. يجري بعنفوان وكبرياء قلّ نظيرهما في انتظار جود السماء. كان الروائي، إدريس الشرايبي، محقاً حين احتفى به وهو يضعه عنواناً لأحد أشهر رواياته: أم الربيع.
في ظروف مثل هذه، حيث الجفاف والحرب وندرة الموارد والتضخم والأوبئة، من أين للبشر أن يحفرو ابتسامة على محياهم؟ أصبح الأمل العملة الصعبة الأقل تداولاً والأكثر طلبا من البشر.
تاريخ سياسة المغرب هو تاريخ سياسة المطر والجفاف المتعاقبين
بعد قليل سيطلّ علينا من خلال قناة تلفزيونية عالمية تحظى بنسبة مشاهدة عالية وترندات كثيرة، رجل بربطة عنق أنيقة، وسيتم تقديمه على أنه خبير في الجيوستراتيجيات والمخططات الظاهرة منها والخفية. سيضع الرجل أمامه الخرائط، ويقول حسب معهد كذا... وفي تصريح مركز دراسات كذا... وقال الرئيس كذا... إنها لعبة المصالح والمنظمات واللوبيات والمعارك الجيوستراتيجية. سيستعين بالجغرافيا ودراسة الإثنيات والأقليات ليفسّر لنا الحروب والصراعات والقتل والانفجارات والاحتباس الحراري... سيعرج على كلّ شيء بانتشاء فاضح. لكنه سينسى أن يقول بأنّ الكل يسير نحو الهاوية، وأن لا رابح في هذه المعركة التي يخوضها الإنسان ضد نفسه سوى التسريع بتدمير مجاله الحيوي، أي الأرض، لأن استمرار ارتفاع درجة حرارة الأرض وتلوّثها واختناقها لا يمكن تفسيره إلا بشيء واحد: غباء البشر.
أشفق على الحيوانات الكثيرة والمتنوعة، تلك التي لا ذنب لها سوى أنها تشترك معنا في الحياة على وجه هذه الأرض. يا لتعاستها وسوء حظها بوجود جار شقي ومنعدم الضمير مثلنا يجاورها الوجود.
الكثير من الصخب والناس تطالب بصخب أكثر، بتفاهة وسطحية أكبر، الكلّ يتبرم ويشتكي من الكلّ، وكلنا نعبّد الطريق نحو النهاية.
سوف يستمر انتهاك حقوق الإنسان وموت المهاجرين واللاجئين الباحثين عن الحياة على الحدود أو غرقاً في البحار والمحيطات. لن يتوقف صعود الشعوبيين والعنصريين والمتعصبين، وحتى الحمقى لسدّة الحكم. فالناس والشعوب، وبطريقتها، وبآليات الديمقراطية المتحكّم فيها، تأتي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالحكام الذين يحبسون أنفاسها وينكلون بها ويحشرونها في الزاوية. يا لسخرية التاريخ، ويا لسوء حظ السياسة والإيديولوجيا وفلسفة الأنوار وتضحيات الشعوب والشرفاء. حتى الأمم المتحدة، وعلى علّة قرارتها، أصبحت مصلحة عالمية للتسجيل فقط.
أخيراً، يبدو أنّ البشرية ستعرف أوقاتاً عصيبة، راهناً ومستقبلاً، و يبدو أن لا حلّ هناك في الأفق المنظور، فهل تجود السماء، على الأقل، مطراً؟
"اللهم اسق عبادك وبهيمتك وأحيِ بلدك الميت" عبارة ردّدها بقال الحي على مسامعي، وهو يراني عن حديثه قد سهوت...