الإيمان السلبي والسقوط في الاختبار
يلجأُ الكثيرون، فرارًا أو إقدامًا صادقًا، لإيمانات سلبيّة تجنّبًا لمشقّة الإيمان "الحقيقي"، خاصّةً في لحظاتِ الاختبار، أو عجزًا عن المجابهة، خلّفته الخسارات المُتلاحقة، هذه مساحة مُطمئنة وهادئة تخلو من معارك وصراعات وأثمان (إلا مع بعض التصوّرات الأحاديّة عن الشيطان والنفس)، ورغم ما تبدو عليه للوهلة الأولى، إلّا أنّ جوهرها ليس بعيدًا عن الإيمان فحسب، إنّما مصطدمٌ معه، من حيث هو اعتقادٌ، ومن حيث هو دور، وإن تظاهر بأنّه يدور في فلكه أو يغوصُ في عمقه.
وغالب المسارات المُشابهة تورّطت، بدعوى السير على طريق الحقيقة في نورها، تورّطت في كلّ ضدٍّ لهذه الحقيقة، وجهلت وجهّلت، وساندت الاستبداد والظلم وإن لم تعِ، إذ إنّهما (الظلم والشيطان) يسعدهما ويخدم مشروعهما أن تكون مؤمنًا طقوسيًّا إجرائيًّا، دون تجسيد هذا الإيمان في معانيه المُشتبكة مع الواقع، واقعك كفرد، وواقع مجتمعك وأمّتك، فيبدو من وجود هذه الظواهر حرصها على "الإيمان" بهذا التصوّر دون التورّط في مقابلةِ تجلّياته العمليّة والحركيّة التي تهدّد سطوتهما ووجودهما (الظلم والشيطان).
هي رسالةٌ سجنيّة (كتبتها في المعتقل)، لا في نقد التصوّف كما أفهمه، وكما أسّسه الأوائل، أنشرها الآن تعاطيًا مع السقوط الحاصل في قاع الإيمان السلبيّ الذي ينفي التفاعل ويحجب عن الواقع وينسفُ فرائض الوقت نضالاً ضدّ الظلم وقتالاً ضدّ المحتل.
......
بظهورِه، أعادَ الإسلامُ حرثَ المجتمع المكيّ (وما حولَه) فقلّبَه باطنًا على ظاهر. استخطَرَهُ من استقرّوا (فوق) بأموالِهم، نسبِهم، أو بقوّتِهم. استنفرَهم أن يُبصرَ العبيد "إنسانَهم" على يديه، أن يروا سواسيّةَ الخلقِ في تعاليمِه ونصوصِه "كأسنانِ المشطِ، لا فرقَ بينَ أبيض على أسود".
ألِفوا قبَلهُ أديانًا ملفّقة، وآلهةً مُخلّقة، لا تسمعُ ولا تبصرُ ولا تغني من الحقِّ شيئًا. صنعوها وسيّروها بمشيئتِهم، وعلى هواهُم، استقبلوا القرابين باسمها، وقتلوا باسمِها، وانتَهكوا باسمِها.
بلا تفاعلٍ -مقابلٍ- ولا إدراك، يأكلونَ الأموالَ، يُهدرونَ الحقوقَ، يئدونَ، يَبطشونَ، ويَتظالمون، ثم يُدهشُهم هذا المتفجّرُ عِزًّا، وَسْط أوحالِ خُنوعِهم، ليقول "خذْ من أموالِهم"، "ولا تقتلوا أولادَكم"، "ولا تركِنوا إلى الذين ظَلموا"، "والذين يكنزون الذهب والفضة"، "وإذا الموءودة سُئلت"، "إنَّما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ"، "اتقوا الظلمَ فإنه ظلمات"، "من قُتِلَ دون مظلمَتِه فهو شهيد"...
ما الذي بَقى لهم لو تهدَّمَت تلك الأسسُ التي عليها قاموا وبها رَسخوا؟ أيُّ بلاءٍ هذا الذي أوقعَته السماءُ على رؤوسِهم، فهدَّدَ مصالحَهم، واقتصادَهم، وسلطانَهم وهيبتَهم؟
أيُّ بلاءٍ هذا الذي أوقعَته السماءُ على رؤوسِهم، فهدَّدَ مصالحَهم، واقتصادَهم، وسلطانَهم وهيبتَهم؟
لو أنّه صنعَ إلهًا من عجوةٍ، يُصلّي له ويَطوفُ حولَه، يَذكُرُهُ ويُسبحه... سيقبَلون منه ذلكِ الرابطَ الروحيّ الفارغ؛ أن يكونَ دَرويشًا وعالة. سيرعون له تلك المُخدّرةَ التي تُغيّبُ متعاطيها عن حالِه وزمانِه، ومجتمعِه، وحقوقِه؛ فتزيدُه ذلّاً، بوهمِ الصبرِ على البلاءِ، وتزيدُه فقرًا، بادّعاءِ الزهدِ، وتزيدُه ضعفًا، بادّعاءِ الورع.
هذا هو الحال، كما كان قديمًا، عند الآخر (شرقًا وغربًا)، عند الحُكّام المستبدين، عند رؤساءِ الطوائفِ المنتفعين، وحتى عند المحتلّين على اختلافِ أعلامِهم ومطامعِهم.
رغمَ أنّ الناظرَ لتاريخِ نشأةِ التصوّفِ، حتى، قبلَ تعريفِه وتسميتِه، سيجدُه صرخةً بدأت؛ اجتماعيّةً/سياسيّةً، في مواجهةِ جورِ السلطان، وفُحشِ الحاشيةِ والأعوان. تفجّرَ ثورةً من داخلِ الدين، عندما فَتُرَت فورَتُه (الدين)، وتنعّمَت طليعَتُه، ونُسي فقراؤه؛ تذكيرًا بجوهرِه، وتبصيرًا بحقيقةِ كنهِه. انطلقت صيحتُه الأولى في مواجهة الحاكمِ (رغمَ كونِه خليفةً، وصحابيًا كبيرًا) والحاشيةِ (رغمَ عصبِهم وسلطانِهم وثروتِهم وشرّهم)، فأسّسَ مقاماتِه تأسيسًا يتناسقُ مع اجتماعيّةِ الدينِ، وكراهيةِ الظلمِ، وتقديمِ العدلِ؛ إذْ فيه؛
التوبةُ: عن كلّ مظلمةٍ وشهوةٍ، في حقّ اللهِ وحقوقِ خلقه، تخلّصًا من شرورِ النفسِ فيكَ وخارجك.
العزلةُ: استيحاشٌ من الخلقِ، اتّقاءً للباطلِ، وتجنّبًا لأهله "وبطن الأرض إليّ أحبّ من ظهرها…" وائتناسٌ باللهِ في حاجات خلقه.
الزهدُ: تحقيرُ كلّ مالٍ وسلطانٍ "والفقرُ أحبُّ إليّ من الغنى …" تطهيرًا للنفس وحفظًا لها.
تفجّرَ التصوّف ثورةً من داخلِ الدين، عندما فَتُرَت فورَتُه، وتنعّمَت طليعَتُه، ونُسي فقراؤه؛ تذكيرًا بجوهرِه، وتبصيرًا بحقيقةِ كنهِه
الفقرُ: الذي أوجبُه التعفّفُ عن عتباتِ الطغاةِ تملّقًا.
الورعُ: لا عن الظلمِ، فذلك محسوم، إنّما عن القبولِ به أو مصاحبةِ مرتكبِه أو السكوتِ عليه.
الرضا: فيستوى المنحُ والمنعُ/العطاءُ والبلاءُ، طالما في طريق الحق.
الصبرُ: على قَدَرِ لله؛ فرحًا به ولذّة، وعلى ما سيصيبك تبعًا لإنكارِ المُنكرِ، نصرةً لضعيفٍ، أو انتصارًا لمظلوم.
التوكّل: انطلاقًا لمقاومةٍ تستردُّ الحقوقَ وتَردُّ الظالمَ، وثقةً في أنّ اللهَ لن يضيّعَكَ ما دمتَ في معيّتِه، وطمأنينةً تطردُ الخوفَ ممّا يتهدَّدُكَ من الخَلقِ.
....
وهكذا، خطوةً خطوة، نعيدُ النظرَ في مقاماتِه وأحوالِه هربًا من رسمنته للسكوتِ عن استبدادٍ، أو احتلالٍ أو التنظيرِ له، إذ لا يليقُ به مرقعةُ أهل الرَقع، ولا دَروَشَة المتسوّلينَ اللُّكع، ولا يليقُ به قَبُول دعوتِهم "تصوّف ولا تتشوّف". وهذه ليست رسالةٌ في نقدِ التصوّفِ مطلقًا، إنما لبعثِه من تخاريفٍ لحِقَت به، فأساءَت له، وأهدرَت ثورتَه العظيمةَ التي أوجدَتْهُ، لحظةَ تَغافلَ الناسُ وغَفلوا. فبعدَ أن جاءَ انتفاضةً شرعيّةً للفقهِ والواقعِ بعدَ أن غَلبت الشكليةُ عليهما، غرَقَ هو فيما غرقَ فيه شقيقُه (الفقه)، وأفرطَ في طقوسٍ تكادُ تُسقُطُ الفرائضَ والواجباتِ وتنفيها.
هذه ليست رسالةٌ في نقدِ التصوّفِ مطلقًا، إنما لبعثِه من تخاريفٍ لحِقَت به، فأساءَت له، وأهدرَت ثورتَه العظيمةَ التي أوجدَتْهُ، لحظةَ تَغافلَ الناسُ وغَفلوا
ولعلَنا بحاجةٍ للتوفيقِ بينَ إدخالِ القلوبِ في الأحكام، وبينَ القفزِ على الأحكامِ ذاتِها وإنكارِها، والتوفيق بين "ضيق العبارةِ" قصداً لـ"اتّساع الرؤيةِ"، وبين "السكوت عن الحق" الذي لا يَقومُ به إلا شيطانٌ أخرس. والتوفيقُ بين الذِكرِ لطردِ الغَفلَة، والغَفلَة عن الواقعِ في الذِكرِ.
فلو أنّ محمدًا كفَّ رسالتَه عند الطقسِ العبوديّ الظاهرِ، لكفّوا سيوفَهم عنه.
لو ظلَّ يناجي ربَّه في حرّاءٍ للأبد لما التفتوا.
لو سكتَ عند الصلاةِ، الصيامِ، الذكرِ، الدعاءِ؛ لربما سَكَتوا عَنه.
ليكن مَسيحًا يُصلّي بالناسِ ويجوّعهم ويَبكي خطيئَتَهم.
ليعتزلوا الدنيا وليتكهفوا في الجبالِ النائيةِ.
لكن هذا الذي يقولُ به، يهدّدُ سلطانَهم، لذا أثارَ الثائرةَ وحشدَ الحشودَ، مساومةً على ملكٍ ومالٍ، تهديدًا، مكرًا، أذىً، تهجيرًا… وقتالاً، وما زالَ يفعلُ للآن.
اجتمعوا في حلقاتِ الذكر، تَمايلوا، جُوعوا، واحفوا!
اغتنوا بعد فقرٍ، وعِزّوا بعد ذُلّ، واشتهِروا بعد خفاء!
هيموا في الطرقاتِ، أو على الأحصنةِ! دقوا الطبولَ وتراقَصوا، قولوا "نَسمو بالرُّوح"! سيَطرَبَون لقولِكم؛ يعجبهم هذا، وأكثر.
سيفسحون لكَ كلَّ طريقٍ يُخرجك من الحاضر، فينفي تاريخَك، وينسفُ تعاليمَ دينك، ويُجهضُ مستقبلَك. أمّا في اللحظةِ التي تتورّعُ فيها عن انسحابِك، وتتوبُ عن سكوتِك، وتَفطِمُ نفسَك عن إلفِ خنوعِها، وتنطقُ فيَبينُ منطِقُك عن الحقائق، غيرَ غافلٍ "العملُ مع اتّباع"، إلى أن ترى دمَكَ للحقّ هدرًا ومُلكك لتحقيقِ العدلِ مباحًا.
حينها، سَيَنفِرونَ، كما سبقَ وفعلوا مع صاحبِ الرسالة، ومع أولياءِ الطرقِ وسالكيها.
سيساومونَك لتعودَ إلى الحظيرةِ، فازهَدْ!
سيهددُونَك ويكيدَون لك، فتوكّل!
سيؤذوَنك، فاصبرْ!
وسيقاتلوَنك، فجاهدْ!
فإمّا ينتصرُ الحق بك، وإمّا تُطلِقُ سراحَ طائرِ نفسِك وتُفلتَه من قفصِه، حَنينًا إلى موطنِه الفِردَوسيّ الذي هبطَ منه قديمًا.
فهنيئًا لك ساعتها، سيّدي، الشهود والخلود.