التطبيق العبري واليمامات في المعتقل
عندما شعرتُ بأنّ الضربةَ هزّت شيئًا بداخلي، وأنّني أفكّر صامتًا في أسئلةِ القدرة والصمود والاختراق... في أثناء المواجهة؛ استعدتُ تطبيقًا عبريًّا يطلق التحذيرات مع كلّ صاروخ أو مسيّرة تصل إلى الأرض المحتلّة، ويطالب بالنزول فورًا إلى الملاجئ.
كان هذا التطبيق مصدر متابعة في ما سبق، لكنّي استعدته الآن لأوازنَ القلق الذي ألمّ بي، وليذكّرني في كلِّ تحذيرٍ وعلامة حمراء على خريطة الوطن المحتلّ أنّ فعلاً مقاومًا مستمرًا ما زال، وأنّ قدرةً باقية مهما كان أثرها في حقيقته، أو بدا للرائي.
أعادني هذا التحايل الذي نجح كثيرًا معي، إلى تحايلٍ قديمٍ في المعتقل، لا بتطبيقٍ إلكترونيٍّ وقتها، إنّما بيمامتين خارج القضبان، لعلّهما أعاناني على المعتقل والسجّان والانفرادي والجنون والسقوط، هذان الكائنان شديدا الهشاشة.
وهذه حكايتي معهما:
وحدي تمامًا لسنينَ طوال. لا شريكَ ولا وَنس.
لا شيءَ مطلقًا إلّايَ، وظلالٌ على الجدرانِ أشكّلُها كيفَ شئتُ، لأحاورَها.
لم تقوَ ذاكرتي على الحال؛ فصدأت. لم يُسعفني خيالي؛ فنضبَ (يُحلّقُ منطلقًا من واقعٍ، لا من عدم!).
لم يسعفني -حتى- قلبي؛ فاضطربَ ضخّهُ الدمويّ الرتيب. كنت كمنِ ابتلعهُ ثقبٌ أسود في فضاءٍ بعيد، حيثُ ينعدمُ الزمانُ والمكانُ والحالُ، حيثُ تتهدّم النسبيّةُ وتنتفي القوانين.
لا يبقى إلا فُتَات ذرّاتٍ من بقاياك، بلا أملٍ في العثورِ عليها، ولا سبيلَ للَملَمَتِها.
في هذا العدمِ شبّاكٌ كبيٌر، علِيه قضبانٌ صدئة (يَقتلُنا بردُه في الشتاء، تقتلنا رائحتُه وبعوضُه في الصيفِ، ويقتلُنا تكشّفُه لو أردنا الستر).
لم أكن حينها واثقٌ من وجودِ شيء، إلَّا السجن، يتجسّدُ وحده حقيقةً تلتهمُ كلَّ فكرةٍ أخرى.
وَسْط هذا كلّه، حطَّتْ على عَتبِ الشبّاك يمامةٌ (ظننتُها أنثى أوّلُ الأمرِ وما زلت. هكذا الأنثى في حياتي!). أخذتني تمامًا (لا أُخفِيك، تعاملتُ معها لفترةٍ باعتبارِها ضلالةً تُقاومُ اللاشيء الذي كنتُ فيه).
في المعتقل.. لا يبقى إلا فُتَات ذرّاتٍ من بقاياك، بلا أملٍ في العثورِ عليها، ولا سبيلَ للَملَمَتِها
قُربَ السابعةِ صباحًا ضربتُ أوّلَ موعدٍ (للنوم صُبحًا حكايةٌ أخرى، ربّما أحكيها لاحقًا).
صرتُ أنتظرُها، أفتقدُها، ولو لم تتأخر. وأبتهجُ لِقدومِها كطفلٍ تَاهتْ عَنهُ أمُهُ.
لو رأيتَ الابتسامةَ البلهاءَ على شَفتيّ وقتَ تبدأ السجعَ.
تُلقيْني للنومِ أخيرًا بذاتِ الابتسامةِ، التي تناقضُ طبيعةَ المكانِ والظرفِ.
يومين أو ثلاثة.. جاءَ وليفها. أضحت صُحبةً، ونسًا مُضاعَفًا.
أنتهي من صَلواتي، أستعدّ للنومِ، بانتظارِهما، يأتيان، أبتَسِمُ وأَنام.
لأكثرَ من ستِ سنين، في ذاتِ الغرفةِ، على عَتب ذاتِ الشُبّاك، لم أسألْ نَفسي إن كانا هُما؟ تَبدّلا؟ أتى وليفان آخران؟ لم أسألْ ولن أفعلَ.
ثم بَعدَ نِضالٍ وإِضراباتٍ ومَحاكمٍ طالت سنين... تركتُ زنزانتي الانفرادية أخيرًا. صَعدتُ دورًا، لأصيرَ في صُحبةٍ، مع زميلين. ثمّ يأتي مَوعدُ النومِ، ولا نَوْم!
فَشلت كلُّ محاولة. رغمَ الرفقةِ التي لم تكن ممكنةً في الانفرادي، رغمَ الدواءِ الذي وصفَه الطبيب، رغمَ كلِّ شيء.
أصلّي. أنتظرُ. يفوتُ الموعدُ، يُخلفانِه، ويُخلّفان فيّ حسرةَ الفَقْد. "كان وجودُهما مصادفةً، لا لأجلي جاءَا" أقولُ لنفسي.
إلى أن طلبتُهما من اللهِ شخصيّاً: "لو أنَّكَ أرسلتَهما فيما مَضى، أعِدهُما الآن. آمين".
لم يفت شيء. طلبتُهما فجرًا وأَتياني مع الصبح. تمامًا عِندَ السابعة.
على العَتبِ من يَومِها، تسعيان ثمّ تعودان. فِراشي في المواجِهةِ، فقطْ لأُتابعَهُما، لأطمَّئنَ عليهما، لأطمَّئنَ بهما.
صحيح: كنتُ أربّي (ونورهان، زوجتي السابقة) يمامتين في بيتي الذي كان. كانا آخِرَ ما لَمحتُ على البِاب قَبل اعتقالي.
لم أضعْ لهما حبّاً؛ هرباً من نفعيّة تَشوبُ وجودَهما الرَّحمانيّ/المُجرّد.
لم أسمِّهما (يمامتاي كانتا جيڤارا وچميلة) خَشْيَة التكسّرِ فَقدًا.
أتونّس (استأنسُ؟) بِهما، يُطبطبان على رُوحي كلَّ صبحٍ.
يقولُ وجودُهما لي إنَّ اللهَ موجود، إنَّ معَ العسرِ يسرًا، وإن جمالاً هامشيًّا، هشًّا، قد ينتصرُ على مطلقِ القبح، بكلِّ بساطة.