العيش بشجاعة
سعيد ناشيد
يتّفق معظم فلاسفة العيش اليوم على أنّ دور الفلسفة مساعدة الإنسان لكي يعيش حياة جيّدة (يُترجمها البعض بالحياة الطيبة تناغمًا مع الاصطلاح القرآني، ولا بأس بذلك)، إلّا أنّ مفهوم الحياة الجيّدة، أو الطيبة، أو حتى السعيدة، يظلّ غامضًا إلى درجة أنّه يثير الشك حول قدرته على أن يمثل هدفًا فعليًا للفلسفة المعاصرة.
لو أني سألتك على سبيل المثال، هل عاش سقراط حياةً جيدة؟ فقد تُجيبني على الفور بنعم بكلّ تأكيد، لقد كان سقراط هادئًا معظم حياته، وهذا يكفي وزيادة. لكني لو سألتك هل تستطيع أن تتحمّل زوجة مثل زوجته، وفقرًا مثل فقره، ثم إعدامًا مثل إعدامه؟ ستقول لي، ذلك كابوس لا يطاق.
فكيف يمكن لحياة لا تُطاق أن توصف بأنّها جيدة؟
هل تنطبق الجودة على حياة سقراط بالفعل، أم أنّها تنطبق على شخصية سقراط بالذات؟ بمعنى آخر، هل عاش سقراط حياة جيّدة أم كلّ ما يمكننا قوله هو أنّه كان إنسًانا جيدًا وسط حياة لم تكن بالضرورة كذلك؟
سأُوضح بتفصيل أكبر، هل عاش سقراط حياة آمنة مطمئنة وخالية من المآسي والمخاطر كما يتمنى معظم الناس لأنفسهم ولأبنائهم، أم كلّ ما في الأمر أنّه عاش الحياة بكلّ شجاعة، وكما ينبغي أن نتمنى؟
غايتي أن أبسُط دعوى لا أدّعي أنها جديدة إلّا أنّي أحاول أن أبعث فيها شيئًا من الروح، وأمنحها القدرة على الصمود أمام اختبارات الحياة المعاصرة:
ليس دور الفلسفة أن تمنحنا حياة جيدة، أو طيبة، أو سعيدة، فهذا الأمر محكوم بمصادفات الحياة، والتي يظل مجال الإرادة فيها محدودًا، لكن دور الفلسفة أن تمنحنا شجاعة العيش في كلّ الظروف التي نصادفها أو قد تفرضها علينا الحياة.
دور الفلسفة أن تمنحنا شجاعة العيش في كل الظروف التي نصادفها أو قد تفرضها علينا الحياة
الحياة ساحة حرب، إنّها قتال دائم ضدّ الأمراض والآلام والجوع والعطش والفقد والحرمان والوهن والعلاقات السامة والأفكار الضارة ومختلف مصادر الشقاء البشري، وكما لا توجد معركة جيّدة بل مقاتل جيّد، فكذلك الأمر في الحياة، حيث لا توجد حياة جيّدة بل يوجد إنسان جيّد. لكن، وأيضا، مثلما أنّ المقاتل الجيّد هو من يقاتل بشجاعة ومهارة فكذلك الإنسان الجيّد هو من يعيش بشجاعة ومهارة.
الحياة حرب مستعرة، لا سبيل فيها إلى تجنُّب التوتّر إلّا بامتلاك قدر كافٍ من الشّجاعة، شجاعة مواجهة المشاكل اليوميّة بدل الهروب، شجاعة تحمُّل مسؤولية الاختيارات اليومية بدل التنصّل، شجاعة العيش بدون أقنعة بدل التنكر، شجاعة الإنصات إلى القناعات التي لا نتقاسمها، شجاعة تحمل مختلف الجروح والكدمات وعدم الاكتراث بالخبشات، شجاعة التركيز على الهدف الذي يناسبنا في الحياة، شجاعة التخلّي عن الأشياء غير الضرورية والعلاقات السامة والأفكار الضارة، شجاعة التكيّف مع الوضعيات التي تتطلبها مختلف المعارك، شجاعة اللقاء بالأباعد ومفارقة الأقارب حين تستدعي الحياة ذلك، شجاعة الدخول إلى العوالم المظلمة وغير المكتشفة، شجاعة الذهاب إلى حيث لم يذهب الآخرون، شجاعة النمو والارتقاء في كلّ الأبعاد الإنسانية الممكنة، شجاعة العيش إذًا، شجاعة الوجود.
لا توجد معركة جيدة بل مقاتل جيد، فكذلك الأمر في الحياة، حيث لا توجد حياة جيدة بل يوجد إنسان جيد
صحيح أنّ الحياة تجربة عابرة، قد ينقطع خيطها فجأة أو في أيّ لحظة، لكنك ينبغي أن تعيشها في كلّ أحوالك وأحوالها، بأقل ما يمكن من الأسى والخوف والتذمُّر، وبأقل ما يمكن من الشقاء إذًا.
لأجل ذلك، فإنّك تحتاج إلى شجاعة الوجود، شجاعة أن تكون أنت كما أنت، وأن تستنفد الممكنات التي لديك دون أن تستنزف طاقتك، شجاعة أن تستعمل الظروف نفسها لمصلحتك مترفعًا عن كلّ شكوى بلا جدوى، شجاعة أن تتحمّل الضربات التي يمكنك أن تتحمّلها، شجاعة أن تواصل القتال يومًا بعد يوم، وأن تتكيّف مع الوضعيات القتالية المستجدة بكلّ ما لديك من مرونة وقدرة على التركيز، شجاعة أن تعيش إذًا.
على أن مفهوم السعادة بالغ الخطورة والضّرر، لأنه ما إن يرسخ في الذهن والوجدان حتى يصبح من بين مصادر الشقاء البشري.
كيف ذلك؟
لعلك تقول، أريد زواجًا سعيدًا، لكن هذا الهدف لا يتحقّق إلّا في قصص الأطفال، والنتيجة هي الإحباط الناجم عن خيبة الأمل المفضية إلى شقاء الحياة الزوجية.
مفهوم السعادة بالغ الخطورة والضّرر، لأنه ما إن يرسخ في الذهن والوجدان حتى يصبح من بين مصادر الشقاء البشري
لعلك تقول: أريد منصبًا سعيدًا، يُوفر لي بيئة عمل آمنة من كلّ المشاكل والاضطرابات، لكن هذا الهدف لا يتحقق إلّا في خيال العاطلين عن العمل، والنتيجة خيبة الأمل المفضية إلى شقاء الحياة المهنية.
لعلك تقول، أنتظرُ برنامجًا سياسيًا يُحقّق السعادة لي ولجميع الناس، لكنّ هذا الهدف لا يتحقق إلّا في أوراق الساسة الكاذبين وأناشيد الحالمين، والنتيجة خيبة الأمل المفضية إلى الشقاء السياسي.
لعلك تقول: أريد حياة سعيدة، لكن منذ وُجد الإنسان على وجه الأرض لم يوجد أي إنسان سعيد، والنتيجة خيبة الأمل المفضية إلى شقاء الحياة.
السعادة مفهوم يدمر نفسه بنفسه.
الفيلسوف أرثر شوبنهاور أدرك ذلك عندما اعتبر في ما يشبه المفارقة أنّ الشرط الأساسي للسعادة هو عدم البحث عن السعادة. غير أنّ الخيار الأفضل هو التخلّي عن مفهوم يُمثل حلقة مفرغة.
كان عالم النفس سيمغوند فرويد يقول ما معناه، ليس دور التحليل النفسي أن ينقلك من الشقاء إلى السعادة، بل دوره أن ينقلك من شقاء مرضي إلى شقاء اعتيادي.
على أنّ الخيار الباقي للتقليص من الشقاء البشري، هو امتلاك شجاعة الوجود.
وبهذا أُخبرك:
جروحك التي ربّما لا تزال تؤلمك هي الدّليل على أنك قاتلت فعلًا ثم نجوت بالفعل.
اِعْتَنِ بأدلّتك.
أما إذا كنتَ لا تحملُ أيّ جرح في روحك فهذا لا يعني أنّك عشت حياة جيّدة، أو طيبة، أو حتى سعيدة، بل كلّ ما في الأمر أنّك جانبتَ الحياة، أو اجتنبتَها في الأساس.