الولائم المتناقضة
في ذاكرتنا الطفولية امتزاج حي ما بين الرائحة والشبع وقوة حضور البشر في الأماكن الجميلة ذات البعد الديني الاحتفالي. كنا صغاراً حين أمسكنا بأصابعنا الطفولية طبقاً من الألمنيوم ووقفنا في الطابور لنأخذ حصتنا من الوليمة الجماعية المقامة على شرف شخص ما! إمّا للاحتفال بمناسبة دينية لقديس يحمل صاحب الدعوة اسمه وإمّا احتفالاً بولادة أو نجاة أو شفاء، احتفال منذور فعله في مقام محدد! فبعض الأماكن محددة لتقديم نذور الشفاء وبعضها للمراسم الدينية والبعض الآخر للاحتفال بلمة أسرية قد يجتمع فيها أهل القرية كافة.
طالما وبختني أمي لأنني أذهب إلى كل تلك الاحتفالات من دون دعوة ومن دون مرافقة أمي أو أي فرد من عائلتي، آكل في أي طبق فائض لا صاحب له، أحياناً كنت أقف مرتين في الطابور طلباً لكمية أخرى، بدا الأمر لأمي عاراً عائلياً يشي بأنني جائعة في بيت أهلي حيث لا طعام ولا غذاء ولا شبع. والحقيقة أن دعوة داخلية ورغبة عارمة كانت تقودني إلى هناك من دون أي دعوة وربما بالمصادفة البحتة أكون قريبة من مكان الحدث، تلفتني نار الحطب المتصاعدة من المكان، أراقب زحمة الدخول وأنتظر اللحظة الحاسمة حينما تغمرني رائحة استواء الطعام ونضجه ولحظة احتكاك الملعقة بالصحن المعدني، أسمع الصوت الخافت البعيد وكأنه طبل يعصف بأذني الطفولية وأهرع بدافع جوع يستيقظ فجأة ويعطل كل حواسي حيث أعجز عن التراجع وحتى عن التفكير في عدم الذهاب إلى موطن الدهشة والفرح والشبع.
الولائم القاتلة تزهق الأرواح الغضة هناك بانتظار وجبة تنقذ من الموت جوعاً، لكن الجوع أكثر قتلاً من الصاروخ والقذيفة
تبدو المقارنة غير مبررة ولا متطابقة مع طوابير الانتظار على المراكز المرتجلة لتقديم الطعام لأهلنا في غزة، تعصف الحرب بالدهشة وبالفرح وتبقى حاسة الجوع وحدها متأججة ومتغلبة على الضوابط والمخاطر كلها. عبر الصور القادمة من هناك يتحول صوت الصحون والطناجر المعدنية إلى جزء مرعب من صوت الحرب وصدى المعارك! نعم تدور حرب مدوية هناك جنودها قدور وعبوات معدنية وبلاستيكية وأيد تسعى للقبض على وجبة مشبعة ودافئة، لكنها لا تقبض إلا على الفراغ والألم واستمرار العبث! يتركز الجوع هناك ويتحول إلى وحش يسيطر على كل المشاعر، لا شيء حاضر هنا إلا الجوع والأيادي الممتدة سعياً لهزم الجوع أو لي ذراعه على الأقل! وربما لإسكاته كآلة حرب تروع وتقصف وتقتل وتميت وربما تحرق القلوب أيضاً.
الولائم القاتلة تزهق الأرواح الغضة هناك بانتظار وجبة تنقذ من الموت جوعاً، لكن الجوع أكثر قتلاً من الصاروخ والقذيفة، من ينتظر هنا يخاف الموت حتماً، لكنه مضطر إلى الانتظار خشية على من ينتظره هناك في البيت أو الخيمة، من يموت هنا ولو بالرصاص سيموت كل من ينتظره من الجوع، هو موت متسلسل إذن! لا روائح زكية للطعام هنا، ولا كميات مشبعة، هو الحد الأدنى من كل شيء، من الكرامة ومن الشبع، ومن الاكتفاء ومن الاستمتاع بطعام شهي! الميتة الأكثر قهراً هي أن تعود بخفي حنين، بمعدة فارغة وقدر فارغ وروح ميتة ومشاعر تالفة وجسد منهك ومنهار وستكون أول وصولك شاهداً على موت حلم الطعام لدى كل من ينتظرك.
التناقض هنا ليس شكلياً أبداً، إنه جوهري، تناقض ما بين الخيار وما بين اللاخيار، بل الاضطرار، ما بين المتعة وما بين القهر الممتد، التناقض هنا يشبه فعلياً التناقض ما بين الحياة والموت فعلياً، الموت جوعاً أو ترقباً له باستسلام قهري، والذاكرة هنا مجللة بالغباش، هل الماضي مجرد رغبات مفرحة ومحققة! أم أنه تناقض ما بين خيارات منفتحة وموانع مقيدة.
الولائم المتناقضة ولو كانت مجرد صور هي فعلياً تحمل جوهر التناقض بين الحرب والسلم.. بين الحياة والموت.