حديث البيئة في خطبة الجمعة
إن سألتني قبل المجيء إلى الإسكندرية بغرض الدراسة عن أهم معلم فيها لأجبت على الفور: مسجد القائد إبراهيم، ثم يأتي بعده، غيره من المعالم كالمكتبة والقلعة وغيرهما. مع ذلك، فإنّ المسجد لا يضاهي مآذن القاهرة العتيقة عراقة وتاريخاً (بُني في القرن الماضي) ولا أيضاً معماراً واتساعاً، إنما هي تلك الهالة من الرمزية التي يستطيع أهل الإسكندرية دون غيرهم، إحداثها حول معلم أو مكان ما، هالة كفيلة بجذب انتباه مراهق خطفته أضواء المدينة كحالتي، حيث عزمت منذ أن كنت في المرحلة الإعدادية على زيارة المسجد ريثما يتاح لي الأمر.
رسمت في خيالي جامعاً واسعاً لا يُرى آخره من أوله، ولا يُرى محرابه من مدخله، يحج إليه الزوّار من "سيدي بشر لأبي العباس". استحضرت حكايات كانت تُروى عن صلوات التراويح خلف الشيخ "حاتم"، عن خطب رنانة كان يدوّي بها صوت الشيخ "المحلاوي" في كل جمعة إبان أحداث يناير.
وأخيراً أتيحت لي الفرصة في أوّل عام جامعي، حيث تعمدت المكوث في الإسكندرية في أوّل جمعة لي وعدم العودة إلى بلدتي، وهذا أمر عظيم على أيّ محدث غربة، أن تأتيه فرصة عودة ولا يعود. اغتسلت يومها مبكراً وارتديت جلباباً ثم ذهبت مبكراً إلى المسجد. غالباً ما كنت أهمل طقوس يوم الجمعة كثيراً، ودائماً ما أُدرك الخطيب بعد بدء الخطبة أو في منتصفها، إلا أنّ هذا اليوم كان استثنائياً. ذهبت إلى المسجد فكانت الصدمة الأولى، إذ إنّه، وبالرغم من الموقع المتميّز للمسجد على طريق الكورنيش فإنني ذهلت من مساحته المتواضعة، حتى إنّ بعض مساجد المركز لدينا قد تفوقه مساحة!
على أيّ حال، لم أشأ بأن يُفسد ذلك يومي، وأقنعت نفسي بأنّ العبرة بالمضمون، وأنّ مسجداً بهذا الصيت، لا بد وأنّ خطيبه سيكون على قدر هذا الصيت، وأنّ منبر "المحلاوي" لا بد أن يُملأ بمن هو بمثابة "المحلاوي".
يستطيع أهل الإسكندرية إحداث هالة ما حول أي معلم أو مكان يحبونه
وجاءت الصدمة الأخرى عندما صعد الخطيب وتحدّث، لم يكن ذهولي كذهول صاحب "الأيام" في الأزهر مع الخطيب ضخم الصوت، فخم الراءات والقافات، فحتى تلك الميزة لم أتلمسها في تلك التي أشبه بمخارج ممثل رديء الطلة على مسرح مصري، يجسّد شخصية عربية تاريخية ويتحدّث الفصحى بسذاجة لإضحاك الجمهور، إلا أنّ الدهشة كانت تكمن في موضوع الخطبة، والذي كان عن "نظافة البيئة"!
إنني أعلم أنّ الإسلام كأي دين دعا إلى حميد الأخلاق على العموم، وإلى كلّ ما هو إيجابي، لكن أن تُخصّص خطبة بأكملها عن نظافة البيئة، يبدو الأمر غريباً نوعاً ما، أإلى هذه الدرجة وصل الترف والفضيلة بأبناء الحضر أن خلا مجتمعهم من كل المشاكل الدينية والاجتماعية والأخلاقية ولم يتبق إلا الحديث عن نظافة البيئة؟ أم أنّ الدين خلا من الصلاة والأحكام والعقائد، وأرسلت الرسل لهذا الأمر بالتحديد؟ كنت أعتقد أنّ المعنيين بمثل هذه الأمور (نظافة البيئة)، هم رسل ومبعوثو الأمم المتحدة والمنظمات البيئية؟!
إنّ المشكلة في مثل تلك الخطب، أنها تذكرني بمواضيع الإنشاء لتلاميذ في فصل دراسي؛ إذ يعطيهم المعلم موضوعاً عن الاحتباس الحراري ويطلب منهم الديباجة المعتادة من استشهاد قرآني ثم حديث نبوي ثم بيت من الشعر. وأظنّ من هنا خرجت خصلة التلوّي بآيات القرآن عند الكثير من أصحاب الحرف، كسائق الأجرة الذي يكتب على سيارته "يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين"، وغيرها من القصص الشهيرة التي نعرفها ونتداولها كنوع من التندّر. كان لي زميل لا يحفظ من القرآن إلا فاتحته، فكان إذا صادفه أيّ موضوع تعبير سارع بكتابتها على الفور، أو في امتحان التربية الدينية كان لا يعبأ بالسورة المطلوبة، وإنما يسارع إلى كتابة الفاتحة على الفور، وكان منطقه كيف لأحد أن يجرؤ على وضع علامة خطأ على كلام الله أيّاً كان؟!
دعا الإسلام، كأي دين، إلى حميد الأخلاق، وإلى كلّ ما هو إيجابي
بالعودة إلى هذا الخطيب المسكين الذي يحاول أن يعصر ذاكرته عمّا يمكن أن تتمخض به عن نصوص دينية تخدم موضوعه وتضفي عليه نوعاً من الشرعية، فيأتي بأحاديث إماطة الأذى، وإعمار الأرض، ويلصقها بنظافة البيئة، أو يلجأ لموضوع الحديث، وما لا أصل له، ليستشهد به على الأمر، كالنظافة من الإيمان وغيره...
وعلى ذكر الأمر أيضاً، أذكر خطيباً آخر كانت خطبته عن "فضل النظام في الإسلام"، ولا أدري إن كانت التورية في عنوان تلك الخطبة الموّحدة مقصودة أم لا؟ إلا أنّ خطيب مسجد القرية خرج علينا وقتها واستدل استدلالاً عجيباً بوجود سورة "الصافات" و"الصف" في القرآن، وقال: "عندنا سورة الصف يعني طابور يعني نظام"!
بعد كثير من التفكير توصلت إلى تفسير منطقي نوعاً ما، حيث إنه كان الغرض من الخطبة التعريض بنا، نحن أبناء الريف، بما يتهموننا به زوراً وبهتاناً من الإساءة للبيئة، متمثلةً في البحر الأبيض المتوسط (الذي يبعد عنا الآن بضعة أمتار) كل صيف، لذا ازداد تأثري باعتباري من أبناء الريف ومحسوباً على الفلاحين، وإن لم "أتفلحن" يوماً ما، حتى تبدى لي شبح النجم الراحل، أحمد مظهر، بثوب الناصر صلاح الدين الأيوبي على المنبر موجهاً حديثه نحوي، قائلاً: ولكنكم، أيها الفلاحون، تحرقون قش الأرز، وتبولون في خلجات البحر الأبيض المتوسط، تباً لكم..